آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ
ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَتَمَاثِيلَ﴾ أَيْ: كَانُوا يَعْمَلُونَ لَهُ تَمَاثِيلَ، أَيْ: صُوَرًا مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَشَبَّةٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ. وَقِيلَ: كَانُوا يُصَوِّرُونَ السِّبَاعَ وَالطُّيُورَ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَّخِذُونَ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيَرَاهَا النَّاسُ فَيَزْدَادُوا عِبَادَةً، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي شَرِيعَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَتَّخِذُ صُوَرًا مِنَ الطِّينِ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا [بِإِذْنِ اللَّهِ]. (١)
﴿وَجِفَانٍ﴾ أَيْ: قِصَاعٍ واحدتها جفنة، ٨٧/ب ﴿كَالْجَوَابِ﴾ كَالْحِيَاضِ الَّتِي يُجْبَى فِيهَا الْمَاءُ، أَيْ: يُجْمَعُ، وَاحِدَتُهَا جَابِيَةٌ، يُقَالُ: كَانَ يَقْعُدُ عَلَى الْجَفْنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ يَأْكُلُونَ مِنْهَا ﴿وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ ثَابِتَاتٍ لَهَا قَوَائِمُ لَا يُحَرَّكْنَ عَنْ أَمَاكِنِهَا لِعَظْمِهِنَّ، وَلَا يَنْزِلْنَ وَلَا يُعَطَّلْنَ، وَكَانَ يَصْعَدُ عَلَيْهَا بِالسَّلَالِمِ، وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ.
﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾ أَيْ: وَقُلْنَا اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا، مَجَازُهُ: اعْمَلُوا يَا آلَ دَاوُدَ بِطَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى نِعَمِهِ.
﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ أَيِ: الْعَامِلُ بِطَاعَتِي شُكْرًا لِنِعْمَتِي.
قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ "آلِ دَاوُدَ" هُوَ دَاوُدُ نَفْسُهُ. وَقِيلَ: دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا يَقُولُ: كَانَ دَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَزَّأَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمْ تَكُنْ تَأْتِي سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِمٌ يُصَلِّي. (٢)
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤) ﴾
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ أَيْ: عَلَى سُلَيْمَانَ.
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ يُدْخِلُ فِيهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصْبِحُ يَوْمًا إِلَّا نَبَتَتْ فِي مِحْرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ، فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: اسْمِي كَذَا، فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: لِكَذَا وَكَذَا، فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ، فَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كَتَبَ، حَتَّى نَبَتَتِ الْخَرُّوبَةُ، فَقَالَ لَهَا: مَا أَنْتِ؟ قَالَتِ: الْخَرُّوبَةُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ مَسْجِدِكَ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَرِّبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى

(١) زيادة ليست في الأصل.
(٢) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٦ / ٦٨٠ لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ثابت البناني.

صفحة رقم 391

وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ! فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْبِرُ الْإِنْسَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ أَشْيَاءَ وَيَعْلَمُونَ مَا فِي غَدٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ قَائِمًا وَكَانَ لِلْمِحْرَابِ كِوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَتِ الْجِنُّ يَعْمَلُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَلَا يُنْكِرُونَ احْتِبَاسَهُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى النَّاسِ لِطُولِ صَلَاتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا حَتَّى أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَانَ، فَخَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ. (١)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ فَهُمْ يَأْتُونَهَا بِالْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ، (٢) فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ وَهِيَ الْأَرَضَةُ ﴿تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ يَعْنِي: عَصَاهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو: "مِنْسَاتَهُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَيُسَكِّنُ ابْنُ عَامِرٍ الْهَمْزَ، وَأَصْلُهَا مِنْ: نَسَأْتُ الْغَنَمَ، أَيْ: زَجَرْتُهَا وَسُقْتُهَا، وَمِنْهُ: نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ، أَيْ: أَخَّرَهُ.
﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ أَيْ: سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾ أَيْ: عَلِمَتِ الْجِنُّ وَأَيْقَنَتْ، ﴿أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ أَيْ: فِي التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ مُسَخَّرِينَ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ مَيِّتٌ يَظُنُّونَهُ حَيًّا، أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْجِنَّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ. وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّ مَعْنَى "تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ"، أَيْ: ظَهَرَتْ وَانْكَشَفَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ، أَيْ: ظَهَرَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ شَبَّهُوا عَلَى الْإِنْسِ ذَلِكَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ: عَلِمَتِ الْإِنْسُ وَأَيْقَنَتْ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "تُبَيِّنَتْ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ [أَيْ: أَعْلَمَتِ الْإِنْسُ الْجِنَّ، ذُكِرَ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، "وَتُبَيِّنَ" لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ]. (٣)
وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَابْتَدَأَ فِي بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِنْ مُلْكِهِ.

(١) أخرجه الطبري: ٢٢ / ٧٥، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٦ / ٦٨٢-٦٨٣ لابن أبي حاتم. قال ابن كثير: ٣ / ٥٣٠: "وفي رفعه غرابة ونكارة والأقرب أن يكون موقوفا وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة".
(٢) ذكره ابن كثير: ٣ / ٥٣١ وقال: "وهذا الأثر والله أعلم إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق، والباقي لا يصدق ولا يكذب".
(٣) ما بين القوسين ساقط من "ب".

صفحة رقم 392
معالم التنزيل
عرض الكتاب
المؤلف
محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي
تحقيق
محمد عبد الله النمر
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1417
الطبعة
الرابعة
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية