
فإن قلت: لم قدم رسول الله ﷺ على نوح فمن بعده «١» قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم «٢»، فلما كان محمد ﷺ أفضل هؤلاء المفضلين: قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه. فإن قلت:
فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية، وهي قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثم قدم على غيره. قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك، وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا. والغلظ: استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه. وقيل الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. فإن قلت: علام عطف قوله وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ؟ قلت: على أخذنا من النبيين، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليما. أو على ما دل عليه لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
بها ليل منهم جعفر وابن أمه | على ومنهم أحمد المتخير |
(٢). قوله «هم مشاهيرهم وذراريهم» لعله «دراريهم» بالدال المهملة، والدراري: الكواكب العظام، كما أفاده الصحاح. (ع)

اذْكُرُوا ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريح الصبا. قال رسول الله ﷺ «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور «١» وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وكانوا ألفا: بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم «٢» وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله ﷺ بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «٣» واشتدّ الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر لا نقدر أن نذهب إلى الغائط. وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر «٤» تَعْمَلُونَ قرئ بالتاء والياء مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب: قريش تحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصا.
وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع. الحنجرة: رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد: ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا خطاب للذين آمنوا. ومنهم الثبت القلوب والأقدام،
(٢). قوله «فأخصرتهم» في الصحاح «الخصر» بالتحريك: البرد. وقد خصر الرجل: إذا آلمه البرد في أطرافه اه، فأخصرتهم: أوقعتهم في الخصر أى البرد. (ع)
(٣). قوله «فرفعوا في الآطام» أى الحصون، وهو جمع أطم كعنق. (ع)
(٤). أخرجه ابن إسحاق في المغازي. ومن طريقه الطبري عن زيد بن رومان عن عروة عن عبد الله بن أبى بكر ومحمد بن كعب وغيرهم من علمائنا، فذكر القصة بطولها وأتم مما هاهنا. وهو في السيرة لابن هشام من قول إسحاق. [.....]