
ولما كان التقدير: ومن لم يطع فقد خسر خسراناً مبيناً، وكان كل شيء عرض على شيء فالمعروض عليه متمكن من المعروض قادر عليه،
صفحة رقم 422
وكان كل شيء أودعه الله شيئاً فحفظه ورعاه وبذله لأهله وآتاه باذلاً للأمانة غير حامل لها. وكل من أودعه شيئاً فضيعه وضمن به عن أهله ومنعه عن مستحقه خائن فيه حامل له، وكان الله تعالى قد أودع الناس من العقول ما يميزون به بين الصحيح والفاسد، ومن القوى الظاهرة ما يصرفونه فيما أرادوا من المعصية والطاعة، فمنهم من استدل بعقله على كل من المحق والمبطل فبذل له من قواه ما يستحقه، فكان باذلاً للأمانة غير حامل لها، ومنهم من عكس ذلك وهم الأكثر فكان حاملاً لها خائناً فيها أمر به من بذلها، وأودع سبحانه الأكوان ما فيها من المنافع من المياه والمعادن والنباتات فبذلته ولم تمنعه من أحد طلبه مع أن منعها له في حيِّز الإمكان، قال تعالى معللاً للأمر بالتقوى، أو مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على أن هذا الأمر مما يحق أن يؤكد تنبيهاً على دقته، وأنه مما لا يكاد أن يفطن له كثير من الناس فضلاً عن أن يصدقوه لافتاً القول إلى مظهر العظمة دلالة على عظيم جرأة الإنسان: ﴿إنا عرضنا الأمانة﴾ أي أداءها أو حملها أو منعها أهلها، وهي طاعته سبحانه فيما أمر به العاقل، وفيما أراده من غيره، ولم يذكر المياه والرياح لأنهما من جملة ما في الكونين من الأمانات اللاتي يؤديانها على حسب الأمر ﴿على السماوات﴾ بما فيها من المنافع
صفحة رقم 423
﴿والأرض﴾ بما فيها من المرافق والمعادن. ولما أريد التصريح بالتعميم قال: ﴿والجبال﴾ ولأن أكثر المنافع فيها ﴿فأبين﴾ على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها ﴿أن يحملنها﴾ فيمنعها ويحبسنها عن أهلها، قال الزمخشري: من قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، أي لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها ﴿وأشفقن منها﴾ فبدل كل منهن ما أودعه الله فيه في وقته كما أراده الله، وهو معنى: أتينا طائعين، والحاصل أنه جعلت الإرادة وهي الأمر التكويني في حق الأكوان لكونها لا تعقل كالأمر التكليفي التكويني في حقنا لأنا نعقل تمييزاً بين من يعقل ومن لا يعقل في الحكم، كما ميز بينهما في الفهم إعطاءً لكل منهما ما يستحقه رتبته - وهذا هو معنى ما نقله البغوي عن الزجاج وغيره من أهل المعاني، وما أحسن ما قاله النابغة زياد بن معاوية الذبياني حيث قال:
صفحة رقم 424
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي | على خوف تظن بي الظنون |
فألفيت الأمانة لم تخنها | كذلك كان نوح لا يخون |
ولما كان الخائن أكثر من الأمين أضعافاً مضاعفة، وكانت النفس بما أودع فيها من الشهوات والحظوظ محل النقائص، قال تعالى: ﴿وحملها الإنسان﴾ أي أكثر الناس والجن، فإن الإنسان الأنس، والإنس والأناس الناس، وقد تقدم في ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ [الأعراف: ٨٥] في الأعراف أن الناس يكون من الإنس ومن الجن، وأنه جمع إنس وأصله أناس، والإسناد إلى الجنس لا يلزم منه أن يكون كل فرد منه كذلك، فهو هنا باعتبار الأغلب، وفي التعبير به إشارة إلى أنه لا يخون إلا من هو في أسفل الرتب لم يصل إلى حد النوس.
ولما كان الإنسان - لما له بنفسه من الأنس وفي صفاته من العشق، وله من العقل والفهم - يظن أنه لا نقص فيه، علل ذلك بقوله مؤكداً: ﴿إنه﴾ على ضعف قوته وقلة حيلته ﴿كان﴾ صفحة رقم 425

أي في جبلته إلا من عصم الله ﴿ظلوماً﴾ يضع الشيء في غير محله كالذي في الظلام لما غطى من شهواته على عقله، ولذلك قال: ﴿جهولاً *﴾ أي فجهله يغلب على حلمه فيوقعه في الظلم، فجعل كل من ظهور ما أودعه الله في الأكوان وكونه في حيز الإمكان كأنه عرض عليها كل من حمله وبذله كما أنه جعل تمكين الإنسان من كل من إبداء ما اؤتمن عليه وإخفائه كذلك.
ولما كان الحكم في الظاهر على جميع الإنسان، وفي الحقيقة - لكون القضية الخالية عن السور في قوة الجزئية - على بعضه، لكنه لما أطلق إطلاق الكلي فهم أن المراد الأكثر، قال مبيناً أن «ال» ليست سوراً معللاً لحمله لها مقدماً التعذيب إشارة إلى أن الخونة أكثر، لافتاً العبارة إلى الاسم الأعظم لتنويع المقال إلى جلال وجمال: ﴿ليعذب الله﴾ أي الملك الأعظم بسبب الخيانة في الأمانة، وقدم من الخونة أجدرهم بذلك فقال: ﴿المنافقين والمنافقات﴾ أي الذين يظهرون بذل الأمانة كذباً وزوراً وهم حاملون لها عريقون في النفاق ﴿والمشركين والمشركات﴾ أي الذين يصارحون بحملها ومنعها عن أهلها وهم عريقون في الشرك فلا يتوبون منه.
ولما كان تقديم التعذيب مفهماً أن الخونة أكثر، أشار إلى أن

المخلص نادر جداً بقوله: ﴿ويتوب الله﴾ أي بما له من العظمة ﴿على المؤمنين﴾ أي العريقين في وصف الإيمان وهو الثابون عليه إلى الموت ﴿والمؤمنات﴾ العصاة وغيرهم فيرفقهم لبذلها بعد حملها فالآية من الاحتباك: ذكر العذاب أولاً دليلاً على النعيم ثانياً، والتوبة ثانياً دليلاً على منعها أولاً أي عرض هذا العرض وحكم هذا الحكم ليعذب وينعم بحجة يتعارفها الناس فيما بينهم.
ولما كان هذا مؤذناً بأنه ما من أحد إلا وقد حملها وقتاً ما، فكان مرغباً للقلوب مرهباً للنفوس، قال مؤنساً لها مرغباً: ﴿وكان الله﴾ أي على ما له من الكبر والعظمة والانتقام والملك والسطوة ﴿غفوراً﴾ أي محاء لذنوب التائبين الفعلية والإمكانية عيناً وأثراً ﴿رحيماً﴾ أي مكرماً لهم بأنواع الإكرام بعد الرجوع عن الإجرام، ولما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مطلعها بالتقوى أمر في مقطعها بذلك على وجه عام، وتوعد المشاققين والمنافقين الذين نهى في أولها عن طاعتهم، وختم بصفتي المغفرة والرحمة كما ختم في أولها بهما آية الخطأ والتعمد، فقد تلاقيا وتعانقا وتوافقا وتطابقا - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو أعلم بالصواب.

مقصودها أن الدار الآخرة - التي أشار إليها آخر تلك بالعذاب والمغفرة بعد أن أعلم أن الناس يسألون عنها - كائنة لا ريب فيها، لما في ذلك من الحكمة، وله عليه من القدرة، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم، ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد كما ياتي بيانه لذلك سميت بها) بسم الله (الذي من شمول قدرته إقامة الحساب) الرحمن (الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب) الرحيم (الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب.
لما ختمت سورة الأحزاب بأنه سبحانه عرض أداء الأمانة وحملها - وهي جميع ما في الوجود من المنافع - على السماوات والأرض والجبال، فأشفقن منها وحملها الإنسان الذي هو الإنس والجان، وأن نتجية العرض والأداء والحمل العذاب والثواب، فعلم أن الكل ملكه وفي ملكه، خائفون من عظمته مشفقون من قهر سطوته وقاهر جبروته، وأنه المالك التام المُلك والمِلك المطاع المتصرف في كل شيء