
بِإِلْقَاءِ تَبِعَةِ الضَّلَالِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ يُسَلَّطُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ.
وَوُصِفَ اللَّعْنُ بِالْكَثْرَةِ كَمَا وُصِفَ الْعَذَابُ بِالضِّعْفَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْكُبَرَاءَ اسْتَحَقُّوا عَذَابًا لِكُفْرِهِمْ وَعَذَابًا لِتَسَبُّبِهِمْ فِي كُفْرِ أَتْبَاعِهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ الشَّدِيدِ الْقَوِيِّ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْكَثِيرِ لِمُشَاكَلَةِ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ:
ضِعْفَيْنِ الْمُرَادِ بِهِ الْكَثْرَةَ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ جَوَابُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الْأَعْرَاف:
٣٨] يَعْنِي أَنَّ الْكُبَرَاءَ اسْتَحَقُّوا مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَأَنَّ أَتْبَاعَهُمْ أَيْضا استحقوا مضاعفة الْعَذَابَ لِضَلَالِهِمْ وَلِتَسْوِيدِ سَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ العمياء إيَّاهُم.
[٦٩]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٦٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩)
لَمَّا تَقَضَّى وَعِيدُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّكْذِيبِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَذَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ كُفْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَاب: ٥٧] حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا يُؤْذِي الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ قَوْمٍ نَسَبُوا إِلَى رَسُولِهِمْ مَا هُوَ أَذًى لَهُ وهم لَا يعبأون بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْضَابِهِ الَّذِي فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَذَى قَدْ يَحْصُلُ عَنْ غَفْلَةِ
أَصْحَابه عَمَّا يُوجِبهُ فَيَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا تَجِيشُ بِهِ خَوَاطِرُهُمْ قَبْلَ التَّدَبُّرِ فِيمَا يَحِفُّ بِذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تُقْلِعُهُ وَتَنْفِيهِ وَدُونَ التَّأَمُّلِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ من إخلال بالواجبات. وَكَذَلِكَ يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ وَرْطَةٌ لَهُمْ قَبْلَ التَّأَمُّلِ فِي مَغَبَّةِ عَمَلِهِمْ، نَبَّهَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ كَيْ لَا يَقَعُوا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعَنْجَهِيَّةِ لِأَنَّ مَدَارِكَ الْعُقَلَاءِ فِي التَّنْبِيهِ إِلَى مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَمُلَازِمَاتِهَا مُتَفَاوِتَةُ الْمَقَادِيرِ، فَكَانَتْ حَرِيَّةً بِالْإِيقَاظِ وَالتَّحْذِيرِ. وَفَائِدَةُ التَّشْبِيهِ تَشْوِيهُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ قُبْحُ مَا أُوذِيَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّفّ: ٥] الْآيَةَ.

وَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى هُمْ طَوَائِفُ مِنْ قَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ أَذَاهُ وَلَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا وَاجِبَ كَمَالِ الْأَدَبِ وَالرِّعَايَةِ مَعَ أَعْظَمِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الْآيَةَ (فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَذَى مِنْ قَبِيلِ التَّكْذِيبِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ:
وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُؤْذُونَنِي إِنْكَارِيٌّ). فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراعى فِيهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فِي حُصُولِ الْإِذَايَةِ.
فَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى قَالُوا مَرَّةً فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَة:
٢٤] فَآذَوْهُ بِالْعِصْيَانِ وَبِضَرْبٍ مِنَ التَّهَكُّمِ. وَقَالُوا مرّة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَة: ٦٧] فَنَسَبُوهُ إِلَى الطَّيْشِ وَالسُّخْرِيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: ٦٧]. وَفِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْخُرُوجِ «وَقَالُوا لِمُوسَى فَإِذَا صَنَعْتَ بِنَا حَتَّى أَخْرَجْتَنَا مِنْ مِصْرَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ نَخْدُمَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَنْ نَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ». وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ «وَقَالُوا لِمُوسَى وَهَارُونَ إِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هَذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هَذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ».
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِهِ: مَا نَرَاهُ يَسْتَتِرُ إِلَّا مِنْ عَاهَةٍ فِيهِ. فَقَالَ قَوْمٌ: بِهِ بَرَصٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ آدَرُ»
وَنَحْوَ هَذَا، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ تَوْقِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَنُّبِ مَا يُؤْذِيهِ وَتِلْكَ سُنُّةُ الصَّحَابَةِ وَالْمُسْلِمِينَ وَقَدْ عَرَضَتْ فَلَتَاتٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا قَبْلَهَا كَمَالَ التَّخَلُّقِ بِالْقُرْآنِ مِثْلَ الَّذِي قَالَ لَهُ لَمَّا حَكَمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّبَيْرِ فِي مَاءِ شِرَاحِ الْحَرَّةِ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَمِثْلَ التَّمِيمِيِّ خَرْفُوصٍ الَّذِي قَالَ فِي قِسْمَةِ مَغَانِمِ حُنَيْنٍ:
«هَذِهِ
قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ».
وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ التَّشْبِيهِ هُوَ قَوْلُهُ: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى دُونَ مَا فَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِدْمَاجٌ وَانْتِهَازٌ لِلْمَقَامِ بِذِكْرِ بَرَاءَةِ مُوسَى مِمَّا قَالُوا، وَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِوَجْهِ التَّشْبِيه لِأَن نبيئنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يوذ إِيذَاءً يَقْتَضِي ظُهُورَ بَرَاءَتِهِ مِمَّا أُوذِيَ بِهِ.