آيات من القرآن الكريم

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ

[الجزء الثاني والعشرون]

[تتمة سورة أحزاب]
خصائص أهل بيت النبوة
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
الإعراب:
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ وَتَعْمَلْ من ذكّر يقنت ويعمل حمله على لفظ مَنْ.
ومن أنّث «تعمل» حمله على لفظ «من» لأن المراد بها المؤنث. ولا مانع في النحو من التذكير بعد التأنيث، كما في قوله تعالى: وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام ٦/ ١٣٩].
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط، وجوابه: إما قوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أو ما دل عليه قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وتقديره: إن اتقيتن انفردتن بخصائص من جملة سائر النساء، بدليل قوله تعالى: لَسْتُنَّ.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قَرْنَ أصله «اقررن» من قرّ يقرّ، فنقلت فتحة الراء بعد حذفها إلى القاف، فلما فتحت القاف استغني عن همزة الوصل، وحذفت الراء لتكررها مع نظيرها، وتكررها مع نفسها، وقرئ «قرن» بكسر القاف، إما من «وقر يقر» أي اسكن، وإما من «قرّ يقرّ» والأصل فيه «اقررن» فنقلت الكسرة إلى القاف بعد حذف الراء.

صفحة رقم 5

أَهْلَ الْبَيْتِ إما منصوب على الاختصاص والمدح،
كقوله صلّى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت»
أي أعني وأمدح أهل البيت، وإما منصوب على النداء، كأن قال: يا أهل البيت، والأول أوجه.
البلاغة:
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ تشبيه بليغ، أي كتبرج أهل الجاهلية، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف عام على خاص بعد قوله: أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ فإن الطاعة تشمل جميع الأوامر والنواهي.
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً استعارة، استعار الرجس للذنوب والمعاصي، والطهر للتقوى لأن عرض العاصي يتدنس، وعرض التقي نقي كالثوب الطاهر.
وتَطْهِيراً ترشيح للتنفير.
المفردات اللغوية:
يَقْنُتْ يخشع ويخضع ويدم على الطاعة، والقنوت: الطاعة في سكون والعبادة في خشوع. نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مثلي ثواب غيرها من النساء، مرة على الطاعة ومرة على طلبها رضا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقناعة وحسن المعاشرة. وَأَعْتَدْنا أعددنا وهيأنا. رِزْقاً كَرِيماً في الجنة زيادة على أجرها سالما من العيوب والآفات. لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل أي لا مثيل لكن في جماعة النساء في الفضل. وأصل كَأَحَدٍ وحد بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام، وهو في النفي يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع الكثير. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله، فلم تخالفوا حكمه، وأرضيتم رسوله. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لا تلنّ القول للرجال مثل قول المريبات. مَرَضٌ تطلع إلى الفسق والفجور والريبة. وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا من غير خضوع، بعيدا عن الريبة غير مطمع أحدا.
قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أصله: اقررن، أي الزمن بيوتكن، بفتح القاف من قررت، وبكسرها من وقر يقر، من القرار أي السكون، يقال: قررت في المكان أقرّ به: أقمت فيه. أو من قرّ يقرّ. وَلا تَبَرَّجْنَ أي لا تتبرجن، والتبرج: إبداء المرأة للرجل ما يجب عليها ستره من محاسنها. تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ما كان قبل الإسلام من الجهالات كإظهار النساء محاسنهن للرجال. وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر والنواهي. الرِّجْسَ الذنب أو الإثم أو النقص المدنّس للعرض. أَهْلَ الْبَيْتِ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو منصوب على المدح أو النداء.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي ويطهركم من المعاصي.

صفحة رقم 6

قال البيضاوي: وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون إجماعهم حجة: ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، وحديث العباءة التي أدخل فيها النبي فاطمة وعلي وولديهما يقتضي أنهم أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ أي عظن النساء بما يتلى، وتذكرن نعم الله عليكن من جعلكن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة. وَالْحِكْمَةِ هي حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً بأوليائه وأهل طاعته. خَبِيراً بجميع خلقه، يعلم ويدبر ما يصلح في الدين.
المناسبة:
اقتضى عدل الله ورحمته أن تكون زيادة العقاب مقرونة بزيادة الثواب، فبعد ذكر مضاعفة العذاب على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ارتكاب الفاحشة، ذكر تعالى خصائص لهن، أولها- مضاعفة الثواب لهن على العمل الصالح، وإعداد الرزق الكريم في الجنة وهو ما يأتي بنفسه، على نقيض رزق الدنيا الذي لا يأتي بنفسه، وإنما بواسطة الغير. وثانيها- امتيازهن على سائر النساء، وثالثها- أمرهن بقوة الكلام وعدم إلانة القول للرجال، ورابعها- الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج، وخامسها- مطالبتهن بمداومة الطاعة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يأمر وينهى، وسادسها- تحقيق صون العرض والسمعة عن الذنوب والمعاصي والتجمل بالتقوى، وسابعها- الأمر بتعليم غيرهن القرآن والسنة النبوية، وتذكر نعمة الله تعالى عليهن.
التفسير والبيان:
١- مضاعفة الثواب: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صالِحاً، نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أي ومن تطع منكن الله ورسوله، وتخشع جوارحها، وتستجب لأمر ربها، وتعمل صالح الأعمال،

صفحة رقم 7

نضاعف لها الأجر والثواب مرتين، لكونها من أهل بيت النبوة ومنزل الوحي، وأعددنا لها زيادة على هذا رزقا كريما في الآخرة والجنة، لا عيب ولا نقص فيه ولا منّة لأحد ويأتي بنفسه، على عكس رزق الدنيا المشوب بالعيوب والنقائص والمنة ويتوقف على الغير الذي يمسكه ويرسله بواسطة إلى غيره، ولأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم وصفا حقيقيا كاملا إلا الرزاق، وفي الآخرة يوصف بالكريم الرزق نفسه.
ويلاحظ أنه تعالى عبّر هنا عند إيتاء الأجر بقوله نُؤْتِها للتصريح بالمؤتي وهو الله، وفي الآية السابقة عبر عند العذاب بقوله يُضاعَفْ فلم يصرح بالمعذّب، إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، ولأن الكريم عند النفع يظهر نفسه وفعله، وعند الضرّ لا يذكر نفسه «١».
٢- امتيازهن على سائر النساء: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي يا زوجات النبي ليس لكنّ شبيه في جماعة النساء في الفضل والمنزلة والشرف والكرامة، لكونكن أمهات جميع المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، ونزول القرآن في بيتكن وفي حقكن. وهذا التعبير كقولهم: ليس فلان كآحاد الناس، ومعناه أن فيه وصفا أخص ومزية وفضيلة لا توجد في غيره. ونساء النبي كذلك، وشرفهن مستمد من سمو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم القائل في
الحديث المتفق عليه: «لست كأحدهم».
٣- النهي عن لين الكلام: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي إن أردتن التقوى أو كنتن متقيات «٢» مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلا تلنّ الكلام ولا ترققنّه عند محادثة الرجال، وليكن كلامكن بجد وحزم وقوة، حتى لا يطمع في الخيانة من في قلبه

(١) تفسير الرازي: ٢٥/ ٢٠٨
(٢) الكشاف: ٢/ ٥٣٧.

صفحة رقم 8

ميل إلى الريبة والفسق والفجور، وقلن القول المعروف المعتاد الذي ليس فيه ترخيم الصوت، البعيد عن الريبة، الذي يختلف عن مخاطبة الأزواج.
وهذا النهي لا يعني أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال من السوء تقتضي المنع والكف، وإنما المراد حملهن على أسمى الفضائل وملازمتها، فلما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح، منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال على وجه فيه ريبة وإطماع، وإساءة فهم من في قلبه ميل إلى الفجور والفسوق والنفاق.
ونساء الأمة تبع لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآداب التي أمر الله تعالى بها.
والخلاصة: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.
وقوله: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ إما متعلق بما قبله، على معنى: لستن كأحد إن اتقيتن، فإن الأكرم عند الله هو الأتقى، وإما أن يكون متعلقا بما بعده، على معنى: إن اتقيتن فلا تخضعن.
ويصح أن يكون اتَّقَيْتُنَّ بمعنى استقبلتن أحدا من الرجال، واتقى بمعنى استقبل معروف في اللغة، قال النابغة:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي استقبلتنا باليد. قال أبو حيان: ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلّق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهرة أنهن لسن متحليات بالتقوى «١». والمراد بقوله: مَرَضٌ ميل أو تشوف لفجور، وهو الفسق وحديث السوء، وهذا هو الأصوب فليس للنفاق مدخل في هذه الآية.
(١) البحر المحيط: ٧/ ٢٢٨

صفحة رقم 9

٤- الأمر بالقرار في البيوت والنهي عن التبرج: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة،
أخرج الترمذي والبزّار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة- رحمة- ربها، وهي في قعر بيتها».
وروى أبو داود أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها».
أما خروج النساء للمساجد فجائز للعجائز دون الشابات
لما أخرجه أحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات».
ولا تتبرجن تبرج الجاهلية القديمة قبل الإسلام: وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، والتبرج: إبداء الزينة والمحاسن للرجال كالصدر والنحر، بأن تلقي المرأة الخمار على رأسها ولا تشده، فتظهر عنقها وقرطها وقلائدها.
٥- مداومة الطاعة لله ورسوله: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بعد أن أمرهن تعالى بالقول المعروف (وهو القول الحسن الجميل المعروف في الخير) وأتبعه ببيان الفعل المناسب للمرأة وهو القرار في البيوت، ثم نهاهن عن الشر، أمرهن بالخير في إقامة الصلاة (وهو أداؤها على الوجه المطلوب شرعا من الخشوع وإتمام الأركان والشروط) وإعطاء الزكاة (وهي الفريضة الواجبة شرعا والإحسان إلى الناس) وإطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي.
وخص تعالى الصلاة والزكاة، لأهميتهما وخطورتهما وآثارهما الكبرى، فالأولى طهارة النفس وعماد الدين، والثانية طهارة المال وطريق مقاومة الفقر، فهما عمودا الطاعة البدنية والمالية.

صفحة رقم 10

وقوله: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ من باب عطف العام على الخاص إذ ليس التكليف منحصرا بالصلاة والزكاة، وإنما هو شامل لكل ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، وأمر الله والرسول واحد.
٦- تحقيق السمعة العالية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي سبب تلك الأوامر والنواهي والمواعظ إنما هو لإذهاب المأثم عنكن، وتطهيركن من دنس المعاصي والذنوب، وتعمير قلوبكن بنور الإيمان.
وقد استعار الرجس (أو الرجز) للذنوب، والطهر للتقوى لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث كما يتلوث بدنه بالأرجاس القذرة الحسية.
وأما الطاعات فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمر به. والرجس يطلق على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت.
وأهل البيت: كل من لازم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأزواج والأقارب. وتوجيه الأوامر لهم لأنهم قدوة الأمة،
روى الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمرّ بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».
٧- الأمر بتعليم القرآن والسنة والتذكير بالنعم: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أي تذكرن نعم الله عليكن من جعل بيوتكن مهابط الوحي، ولا تنسين ما يتلى فيها من آيات الله في قرآنه، وما ينزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الحكمة البالغة والأحكام والعلوم والشرائع، فاعملوا بها وعلموها، إن الله لطيف خبير حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم، فأنزله

صفحة رقم 11

عليكم، وجعل في بيوتكن الآيات والشرائع، واختاركن زوجات لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو اللطيف فعله يصل إلى كل شيء.
وفي هذا حث على الطاعة والتزام التكاليف الشرعية، وتنفير عن العصيان والمخالفة واقتراف المعاصي.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآداب سبعة أمر الله تعالى بها نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونساء الأمة في أغلبها تبع لهن في ذلك.
١- طاعة الله والرسول والعمل الصالح من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لها ثواب مضاعف، ورزق كريم وهو الجنة.
٢- لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم منزلة وفضل وشرف يتميزون بها عن سائر جماعات النساء الأخرى، لكن هذه الفضيلة مشروطة بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونزول القرآن في حقهن، وهذه درجة عالية. وكذلك تمتاز نساء الأمة عن غيرهن من جنس النساء بالتقوى والعمل الصالح، ولكن درجتهن بالطبع أدنى من درجات أمهات المؤمنين أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
٣- على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون قولهن جزلا، وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر اللين والميل من الفجار، كما كانت عليه الحال في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات.
وهذا النهي ليس خاصا بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو شامل لنساء المؤمنين أيضا.
وعلى هذا، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام، ويندب لها إذا خاطبت الأجانب، وكذا المحرّمات عليها بالمصاهرة، كزوج الأخت أن تكون نبرات صوتها قوية من غير رفع الصوت.

صفحة رقم 12

وفي الجملة: القول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
٤- أمر الله تعالى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج: وهو إظهار ما ستره أحسن. والخطاب وإن كان لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، ولأن الشريعة تكرر الأمر فيها بلزوم النساء بيوتهن، وعدم الخروج منها إلا لضرورة. وإنما خوطبت نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك تشريفا لهن، وليكونن قدوة الأمة في الطهر والصون والعفاف.
وأما خروج السيدة عائشة رضي الله عنها في موقعة الجمل بين أنصار علي وبين طلحة والزبير، فما كان لحرب، ولكن اشتدت شكاوى الناس إليها من عظيم الفتنة، ورجوا بركتها، وطمعوا في الاستحياء منها إذا رأتها الجموع المتقاتلة، فخرجت بقصد الإصلاح بين الناس، وآثرت ذلك على خروجها للحج الذي كانت قد عزمت عليه، مقتدية بقول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء ٤/ ١١٤] وقوله سبحانه:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات ٤٩/ ٩]. والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، ولكن لم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، فدارت رحى الحرب واشتد الطعان، وطعن جمل عائشة وعرقبه بعضهم، فاحتملها محمد بن أبي بكر إلى البصرة، ثم أركبها علي رضي الله عنه إلى المدينة في ثلاثين امرأة، فوصلت إليها برّة تقية مجتهدة، مصيبة مثابة في تأويلها، مأجورة فيما فعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب.
٥- الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي.
٦- إن كل تلك الأوامر والآداب بقصد تطهير أهل بيت النبوة من دنس

صفحة رقم 13

المعاصي ورجس المنكرات، وجعلهن في طليعة النساء صونا وعفة، وطاعة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وأهل البيت النبوي: هم نساؤه وقرابته منهم العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم، قال الرازي: والأولى أن يقال: هم وأولاده وأزواجه، والحسن والحسين وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي صلّى الله عليه وسلّم وملازمته للنبي «١». وهذا واضح من ألفاظ الآية وسياقها، فالخطاب في مطلع الآيات ونهايتها موجّه إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم.
لكن قال القرطبي: والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: وَيُطَهِّرَكُمْ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكّر والمؤنث غلّب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهنّ، يدل عليه سياق الكلام «٢».
وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره عن أم سلمة فهو كما قال الترمذي:
هذا حديث غريب. ونصه: قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: «هؤلاء أهل بيتي» وقرأ الآية، وقال: «اللهم أذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرا» فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال:
«أنت على مكانك، وأنت على خير». وقال القشيري: وقالت أم سلمة:
أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: «نعم».
٧- التذكير بنعمة الله على نساء النبي إذ صيّرهن الله في بيوت يتلى فيها

(١) تفسير الرازي: ٢٥/ ٢٠٩
(٢) أحكام القرآن: ٣/ ١٥٢٧

صفحة رقم 14
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية