آيات من القرآن الكريم

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

هذا يقوي التأويل الذي ذكرنا: أخبر في قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ): أن الذين خلفهم العذر فلم يوفوا عهده، والذين لا عذر بهم، فخرجوا فوفوا كلهم لم يبدلوا عهد اللَّه تبديلا؛ لأنه إنما خلفهم العذر؛ فلم يكن في ذلك تبديل.
وقوله: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ (٢٤) على ما وفوا، (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ): هذا يدل أن من المنافقين من قد يتوب؛ حيث قال: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، ويعذب الذي مات على نفاقه.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، أي: لم يزل غفورًا رحيمًا، حيث رحمهم، ولم يأخذهم وقت ارتكابهم الجرم، ولكن أمهلهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)
أي: ردّ كفار مكة يوم الخندق، (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: غنيمة، أي: ردهم بغيظهم، لم يصيبوا شيئًا من الغنيمة؛ فإن كان المراد من الخير: الغنيمة؛ فجائز أن يستدل على تملك أهل الحرب أموال المسلمين إذا أحرزوها، حيث قال: (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)، أي: مالا.
وجائز أن يكون قوله: (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)، أي: سرورا بما كانوا يأملون ويطمعون هلاك المؤمنين على أيديهم، لما أحاطوا بهم وضيقوا عليهم الأمر؛ حتى احتاجوا إلى الخندق؛ فكانوا في أيديهم. يقول: إنهم لم ينالوا ذلك السرور الذي كانوا يأملونه ويرجونه، والله أعلم.
وقوله: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ).
حبث بعث عليهم الريح وسلط عليهم الملائكة؛ حتى هزموهم حتى كفوا القتال والحرب معهم.
(وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا).
أي: كان اللَّه لم يزل قَوِيًّا عَزِيزًا؛ لأنه قوي بذاته عزيز بذاته لا يلحقه ذل، وإن لحق أولياءه الذل والضعف، ليس كملوك الأرض إذا ذهب أصحابهم أو دخل فيهم ذل وضعف؛ ذل ملكهم؛ لأنه عزيز بجنده وحشمه، فأمّا اللَّه - سبحانه - فهو، قوي بذاته، عزيز بذاته، لا يلحقه ذل ولا ضعف بذهاب أوليائه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ): كان رجال فاتهم يوم بدر؛ فقالوا: لئن حضرنا قتالا، لنفعلن ولنفعلن، فلما كان يوم الأحزاب قاتلوا؛ فذلك قوله

صفحة رقم 370

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)، أي: مات على ما عاهد اللَّه عليه، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ): يوما آخر يكون فيه قتال؛ فيقاتل على ما عاهد اللَّه عليه، (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
وفي حرف أبي: (ومنهم من بدل)؛ فيرجع ذلك إلى المنافقين الذين ذكرنا بدءًا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ قوله: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، أي: خالية، وأصل العورة: ما ذهب عنه الستر والحفظ؛ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت؛ فإذا ذهبوا، أعْوَرَتِ البيوت؛ تقول الرب: أعور المنزل، أي: ذهب ستره، أو سقط جداره، وأعور الفارس: إذا بدا فيه موضع خلل للضرب بالسيف.
يقول اللَّه - تعالى - (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)؛ لأن اللَّه حافظها، ولكن يريدون الفرار.
وقوله: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا)، أي: من جوانبها، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ)، أي: الكفر، (لَآتَوْهَا)، أي: أعطوها من أرادها، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)، أي: بالمدينة.
ومن قرأها: (لَآتَوْهَا) - بغير مدّ - أراد: لصاروا إليها.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قولهم: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ): من ناحية العدو، والعورة: الموضع الذي يخاف منه.
وقوله: (أَقْطَارِهَا)، أي: من نواحيها، الواحد: قطر، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ)، أي: عرضت عليهم، وهو الكفر.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)، يقول: آذوكم بالكلام، يقال: خطيب مِسْلَق وسلاق. وفيه لغة أخرى: (صلقوكم) بالصاد: وهو الضرب.
أَبُو عَوْسَجَةَ يقول قريبًا منه: (سَلَقُوكُمْ)، أي: كلموكم وضربوكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)، أي: طوال، والسلق: الضرب، والخاطب: السلاق والمسلاق من هذا، وهو طول اللسان والجرأة على الكلام.
وقوله: (لَا مَقَامَ لَكُمْ) بنصب الميم لا يكون إلا من القيام، و (لَا مُقَامَ لَكُمْ) برفع الميم يكون من الإقامة، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وأبو عبيدة يقول: (لَا مُقَامَ لَكُمْ)، أي: ليس لكم مقام تقومون فيه، و (لَا مُقَامَ)، أي: لا إقامة لكم.

صفحة رقم 371
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية