
سورة السّجدة
وتسمّى سورة المضاجع، وهي مكّيّة بإجماعهم وقال الكلبيّ: فيها من المدنيّ ثلاث آيات، أوّلها قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً «١». وقال مقاتل: فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ الآية «٢». وقال غيرهما: فيها خمس آيات مدنيّات، أوّلها تَتَجافى جُنُوبُهُمْ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ قال مقاتل: المعنى: لا شكَّ فيه أنَّه تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ بل يقولون، يعني المشركين افْتَراهُ محمّد عليه السّلام من تِلقاء نَفْسه، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني العرب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يأتهم نذير من قَبْل محمد عليه السلام. وما بعده قد سبق تفسيره «٣» إلى قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ يعني الكفار يقول: ليس لكم من دون عذابه من وليٍّ، أي: قريب يمنعُكم فيرُدُّ عذابه عنكم وَلا شَفِيعٍ يشفع لكم أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتؤمنون.
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٥ الى ٩]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)
قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ في معنى الآية قولان «٤» : أحدهما: يقضي
(٢) السجدة: ١٦.
(٣) الأعراف: ٥٤.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٢٣٢: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه:
يدبر الأمر من السماء إِلى الأرض، ثم يعرُج إِليه في يوم، كان مقدار ذلك اليوم في عروج ذلك الأمر إليه، ونزوله إلى الأرض ألف سنة مما تعدون من أيامكم، خمس مائة في النزول وخمس مائة في الصعود، لأن ذلك أظهر معانيه، وأشبهها بظاهر التنزيل.

القضاء من السماء فينزِّله مع الملائكة إِلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ الملَك إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ من أيام الدنيا، فيكون الملَك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي.
والثاني: يدبِّر أمر الدنيا مدة أيَّام الدنيا، فينزِّل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض «ثم يعرُج إِليه» أي:
يعود إِليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام وينفرد الله تعالى بالأمر فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وذلك في يوم القيامة، لأنَّ كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة. وقال مجاهد:
يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إِلى ملائكته فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى، ثم كذلك أبداً. وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوحي، قاله السدي. والثاني: القضاء، قاله مقاتل. والثالث: أمر الدنيا. و «يعرُج» بمعنى يصعَد. قال الزجاج: يقال: عَرَجْتُ في السُّلَّم أعرُج، وعَرِج الرجُل يعرَج: إِذا صار أعرج. وقرأ معاذ القارئ، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: «ثم يُعْرَجُ إِليه» بياء مرفوعة وفتح الراء، وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء «يَعْرِجُ» بياء مفتوحة وكسر الراء، وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «ثم تَعْرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء.
قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فيه خمسة أقوال «١» : أحدها: جعله حَسَناً. والثاني:
أحكم كل شيء، رويا عن ابن عباس، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد. والثالث: أحسنه، ولم يتعلمه من أحد، كما يقال: فلان يُحْسِن كذا: إِذا عَلِمه، قاله السدي ومقاتل. والرابع: أن المعنى ألهم خَلْقه كلَّ ما يحتاجون إِليه، كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم، قاله الفراء. والخامس: أحسن إِلى كل شيء خَلْقه، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى: «خَلْقَه» قراءتان. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر:
«خَلْقَه» ساكنة اللام. وقرأ الباقون بتحريك اللام. وقال الزجاج: فتحها على الفعل الماضي وتسكينها على البدل، فيكون المعنى أحسنَ خَلْقَ كلِّ شيء خَلَقه. وقال أبو عبيدة: المعنى أحسن خَلْق كلِّ شيء، والعرب تفعل مثل هذا، يقدِّمون ويؤخِّرون.
قوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي: ذرِّيته وولده، وقد سبق شرح الآية «٢». ثم رجع إِلى آدم فقال: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وقد سبق بيان ذلك «٣». ثم عاد إِلى ذريته فقال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي: بعد كونكم نطفا.
وقراءة من قرأ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام هي عندي أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
(٢) المؤمنون: ١٢.
(٣) الحجر: ٢٩.