وخاطب الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به، فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء، كما
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «إن الله أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين».
٥- يتفرق الناس يوم القيامة فريقين بحسب أعمالهم: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
٦- للكافر جزاء كفره وهو النار، وللمؤمن الذي عمل صالحا الجنة، وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوطّئون أو يقدمون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح.
٧- اقتضت رحمة الله أن يجزي الله من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذي يمهّدون لأنفسهم، ليتميز المسلم من الكافر، وكل إنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، لا بعمله، حتى الأنبياء.
كذلك كان مقتضى العدل أن يجازى الكافرون ويعاقبوا على كفرهم ومعاصيهم إذ لا يعقل التسوية بين المسلمين والكافرين كما قال تعالى:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [القلم ٦٨/ ٣٥- ٣٨].
الاستدلال بالرياح والأمطار على قدرة الله وتوحيده
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٦ الى ٥١]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
الإعراب:
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ تكرار قَبْلِ إما للتأكيد، وإما مع اختلاف التقدير والضمير، أي: وإن كانوا من قبل أن ينزل الغيث عليهم من قبل السحاب لمبلسين، والضمير يعود إلى السحاب في قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً والسحاب يجوز تذكيره وتأنيثه.
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، الهاء يعود إلى الزرع الذي دل عليه. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أو إلى السحاب، وإذا أريد به الزرع فسبب تذكير الضمير: أن تأنيث الرحمة غير حقيقي.
كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في موضع نصب على الحال، حملا على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام، والحال خبر، والتقدير: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها.
البلاغة:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بأسلوب الإطناب، فإنه أسهب تذكيرا للعباد بالنعم الكثيرة، وكان يكفي الجملة الأخيرة.
ْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا
فيهما جناس الاشتقاق.
اؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا
فيه إيجاز بالحذف، حذف منه: فكذبوهم واستهزءوا بهم.
المفردات اللغوية:
الرِّياحَ أي رياح الخير والرحمة وهي الشمال والصبا والجنوب، وأما الدّبور فريح العذاب،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
مُبَشِّراتٍ تبشر بالخير وهو
المطر. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ليذيقكم بها المطر والخصب أي المنافع التابعة لها. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ السفن بها بإذنه. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا الرزق من فضل الله بالتجارة في البحر. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله فيها، فتوحدوه.
اؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالحجج الواضحات على صدقهم في رسالتهم إليهم، فكذبوهم.
نْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أهلكنا الذين كذبوا، ودمرنا الذين فعلوا جرما. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
على الكافرين بإهلاكهم وإنجاء المؤمنين. وهو إشعار بأن الانتقام لصالح المؤمنين وإظهار كرامتهم، حيث جعلهم الله مستحقين لديه أن ينصرهم،
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني وغيره عن أبي الدرداء: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم» ثم تلا الآية.
فَتُثِيرُ أي تحرك وتهيج. فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ ينشره متصلا بعضه ببعض. كَيْفَ يَشاءُ من قلة وكثرة، كِسَفاً قطعا متفرقة، وقرئ بسكون السين، تخفيفا. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ وسطه. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أصاب بالودق بلادهم وأراضيهم. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بالمطر أمارة الخصب.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر. مِنْ قَبْلِهِ كرره للتأكيد والدلالة على طول زمن تأخر المطر. لَمُبْلِسِينَ آيسين من إنزاله. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ آثار الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار، وقرئ: إلى أثر. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها، بأن يجعلها تنبت، وقرئ: تحيي بإسناده إلى ضمير الرحمة. لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أن قدرته على جميع الممكنات سواء. وَلَئِنْ اللام لام القسم. أَرْسَلْنا رِيحاً مضرة على نبات. فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع، وقد صار جواب القسم. مِنْ بَعْدِهِ من بعد اصفراره. يَكْفُرُونَ يجحدون النعمة بالمطر، وقوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب سد مسد جزاء الشرط، وحرف الشرط هو (إن) في قوله وَلَئِنْ.
المناسبة:
بعد وصف ظاهرة الفساد في العالم بسبب الشرك والمعاصي، أقام الله تعالى الأدلة القاطعة على وحدانيته بإرسال الرياح والأمطار، وعلى البعث والنشور وعلى قدرته ورحمته بإحياء الأرض بعد موتها، وتخلل ذلك التسرية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس أول من كذبه الناس، فقد تقدمه رسل كثيرون جاؤوا أقوامهم بالبينات فكذبوهم، فانتقم الله منهم بالتدمير والهلاك، فلا يجزع ولا يحزن، والنصر دائما في جانب المؤمنين.
التفسير والبيان:
يذكر الله تعالى نعمه وفضله على خلقه بإرساله الرياح مبشرات بمجيء الغيث، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ومن أدلة وحدانيته تعالى وقدرته ونعمته وآياته الكونية أنه المهيمن على كل شيء في الوجود، فيرسل الرياح مبشرة بالخير والبركة ونزول المطر الذي يحيي الأرض بعد يبسها، وينبت الزرع ويخرج الثمر، وليذيق الناس من آثار رحمته بالمطر الذي ينزله، فيحيي به العباد والبلاد، ولتسيير السفن في البحار بالريح، وللتمكين من ممارسة التجارة والتنقل في البلاد والأقطار للكسب والمعيشة ولشكر الله تعالى على ما أنعم به من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم ١٤/ ٣٤].
ثم سلّى الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
أي إن كذبك كثير من قومك أيها الرسول، فلست أول من كذّب، فلقد كذّبت الرسل المتقدمون بالرغم مما جاؤوا به أممهم من الدلائل الواضحات على أنهم رسل من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، فانتقم الله ممن كذبهم وخالفهم، ونجّى المؤمنين الذين صدقوا بالله ورسله، وما جرى على النظير يجري على نظيره قياسا عقليا وشرعيا، فسيكون الانتقام من كفرة قومك كالانتقام ممن تقدمهم. والخلاصة: أن الله تعالى بعد إثبات الأصلين: الوحدانية والبعث، ذكر الأصل الثالث وهو النبوة.
ثم أخبر الله تعالى عن مبدأ عام وهو تأييد المؤمنين بالنصر، وأنه حق أوجبه
الله على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا، كقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام ٦/ ٥٤]. وفي هذا وعيد للكفار بالهزيمة ووعد وبشارة بالظفر للمؤمنين.
روى ابن أبي حاتم والطبراني والترمذي وابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الآية:
كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ.
ثم أبان تعالى كيفية خلقه السحاب الذي ينزل منه الماء، فقال:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي الله هو الذي يسير الرياح على وفق الحكمة ومقتضى الإرادة إلى الجهة المرادة، فتحرك السحاب وتهيجه بعد سكونه، فينشره في السماء ويجمعه ويكثره، فيجعل من القليل كثيرا، ثم يجعله قطعا متفرقة ذات أحجام متنوعة، فتارة يكون السحاب خفيفا، وتارة يأتي السحاب من جهة البحر مشبعا بالرطوبة، ثقيلا مملوءا بذرات الماء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف ٧/ ٥٧].
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي فتنظر المطر أو القطر يخرج من وسط ذلك السحاب، فإذا أصاب به الله بمشيئته بعض العباد والبلاد، فرحوا بنزوله عليهم ووصوله إليهم، لحاجتهم إليه. فقوله مِنْ خِلالِهِ الضمير عائد في الظاهر على السحاب إذ هو المحدّث عنه.
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي ينزل عليهم هذا المطر بعد أن كانوا قبل نزوله قانطين يائسين من نزوله قبل ذلك، فكانت الفرحة شديدة التأثير في نفوسهم، لمفاجأتهم بالغيث الذي كادوا ييأسون من نزوله. وتكرار كلمة قَبْلِهِ أي قبل الإنزال للتأكيد.
ومجمل معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، وكانوا قبل ذلك بفترات متفاوتة متقطعة يترقبونه فيها، فتأخر، ثم انتظروه مرة أخرى فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فصارت أرضهم الهامدة منتعشة بالنبات من كل زوج بهيج.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فانظر أيها الرسول ومن تبعك نظرة تأمل واستبصار واستدلال إلى المطر الذي هو أثر من آثار رحمة الله، كيف يكون سببا لإحياء النبات والزرع والأشجار والثمار، مما يدل على واسع رحمة الله وعظيم قدرته.
ثم نبّه الله تعالى بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال:
إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، أو من يقدر على إحياء الأرض بعد يبسها بالخضرة والنبات قادر على إحياء الموتى، والله وحده بالغ القدرة على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء في الابتداء أو في الإعادة، كما قال سبحانه:
قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس ٣٦/ ٧٨- ٧٩].
ثم بيّن تعالى سوء حال الكافرين، وتنكرهم للمعروف والجميل، وعدم ثباتهم على منهج واحد، فتراهم يفرحون بالخير، ثم ييأسون وينقطع رجاؤهم من الخير إن تعرضوا لسوء، فقال:
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ أي وتالله لئن بعثنا ريحا ضارة، أو سامة، حارة أو باردة على نبات أو زرع أو ثمر، فرأوا ذلك الزرع قد اصفر، ومال إلى الفساد بعد خضرته، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر، يجحدون نعم الله التي أنعم بها عليهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- من دلائل كمال قدرة الله إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه، والغيث والخصب أثر من آثار رحمة الله، ومن خواص الرياح أيضا عند هبوبها تسيير السفن في البحر، وبالسفن ينتقل الركاب والتجار، وتحمل البضائع من قطر إلى آخر، فتكون وسيلة الرزق بالتجارة، وكل ذلك من نعم الله وأفضاله التي تستوجب الشكر بالتوحيد والطاعة.
٢- النبوة والرسالة من نعم الله أيضا التي تتطلب التصديق والتأييد، ولكن استبداد الكافرين وعنادهم يدفعهم إلى التكذيب برسالات الرسل قديما وحديثا، فقد أرسل الله رسلا كثيرين إلى مختلف الأمم والأقوام والشعوب، مؤيدين بالمعجزات والحجج النيرات، فكذبوهم وآذوهم وسخروا منهم، وكفروا برسالاتهم، فانتقم الله ممن كفر، ونجّى المؤمنين ونصرهم على أعدائهم، وسنة الله الثابتة أنه ينصر عباده المؤمنين، وهذا خبر صدق، والله لا يخلف الميعاد، ولا خلف في خبره.
٣- أخبر الله تعالى أيضا عن كيفية تكون السحاب، وهو أن الله يرسل الرياح، فتحرك الغيوم وتنقلها من مكان إلى آخر، ثم ينشرها ويجمعها في الجو على وفق مشيئته وإرادته وحكمته، ويجعلها قطعا متفاوتة الأحجام والأوزان
والنوعية، تارة تكون خفافا، وتارة تصبح ثقالا مملوءة بالماء، فإذا أنزل المطر على بعض العباد فرحوا بنزول المطر عليهم.
وكانوا قبل نزول المطر عليهم يائسين حزينين لاحتباس المطر عنهم، وأكد تعالى وجود ظاهرة اليأس والاكتئاب قبل إنزال المطر، ليدل على شدة حال الناس، ثم تغيرها إلى حال البشر والفرح، فكلمة مِنْ قَبْلِهِ للتأكيد عند أكثر النحويين، كما في قوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر ٥٩/ ١٧]. وقال الرازي: والأولى أن يقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل إرسال الرياح، وذلك لأنه بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها مطر، فقبل المطر إذا هبت الريح، لا يكون مبلسا، وإنما قد يكون راجيا غالبا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح، فقال: مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الرياح وبسط السحاب، لبيان حال حدوث الإبلاس أي اليأس «١».
٤- إن النتيجة الطبيعية لإنزال المطر هي الدلالة بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نوع من القياس يقال له: قياس الغائب على الشاهد، أو استدلال بالشاهد على الغائب، أي إثبات البعث بناء على ثبوت ظاهرة مشابهة هي إحياء النبات.
٥- المشركون مضطربون قلقون في عقيدتهم، فتراهم عند إقبال الخير فرحين به، وعند ظهور السوء يائسين مكتئبين، ومثال ذلك: أنهم إن أحرقت الريح زرعهم، فاصفر ثم يبس، كفروا وجحدوا وجود الخالق، وتنكروا لمن أنعم عليهم