آيات من القرآن الكريم

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ

قراءة العلم، وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله. فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعا وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع» «١»
وفي الآية دليل على صحة
قوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «٢»
تأمل تفهم بإذن الله. وَلا يَأْمُرَكُمْ من قرأ بالنصب فوجهان: أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً كما نقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي. والثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله ﷺ كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء، فيكون عدم الأمر في معنى النهي. ويراد بالنبيين غيره ﷺ كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء. ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود ولن يأمركم والضمير فيه على قراءة الرفع- قال الزجاج- لله. وقال ابن جريج لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: لعيسى. وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح. أَيَأْمُرُكُمْ أي البشر وقيل: الله بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك. قيل: وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله ﷺ أن يسجدوا له. قلت: وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي ﷺ أمته بعبادة نفسه أول ما استنبىء، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله؟
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٩١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٧٣. أبو داود في كتاب الوتر باب ٣٢. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٦٨. النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٢، ١٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٢٣.
أحمد في مسنده (٢/ ١٦٧).
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥/ ١٩٦).

صفحة رقم 196

القراآت:
لَما بكسر اللام حمزة والخزاعي. الباقون بفتحها. آتيناكم على صيغة جمع المتكلم: أبو جعفر ونافع. الباقون آتَيْتُكُمْ على الوحدة يَبْغُونَ بياء الغيبة وترجعون بتاء الخطاب مبنيا للمفعول: أبو عمرو غير عباس. وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما. وقرأ يعقوب يَبْغُونَ بالياء التحتانية يُرْجَعُونَ بالتحتانية مبنيا للفاعل. الباقون بتاء الخطاب فيهما. مِلْءُ بالهمزة الْأَرْضِ بغير الهمز. روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما. الباقون بالهمز فيهما.
الوقوف:
وَلَتَنْصُرُنَّهُ ط إِصْرِي ط أَقْرَرْنا ط الشَّاهِدِينَ هـ الْفاسِقُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِمْ ص مِنْهُمْ ج مُسْلِمُونَ هـ مِنْهُ ج لعطف المختلفتين الْخاسِرِينَ هـ الْبَيِّناتُ ط الظَّالِمِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ فِيها ج (لا) يُنْظَرُونَ هـ (لا) للاستثناء رَحِيمٌ هـ تَوْبَتُهُمْ ج الضَّالُّونَ هـ، افْتَدى بِهِ ط ناصِرِينَ هـ.
التفسير:
الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد ﷺ قطعا لأعذارهم وإظهارا لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين. قال الزجاج: تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله. وقيل: واذكروا يا أهل الكتاب.
وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد الى المعاهد منه، أو من إضافة

صفحة رقم 197

العهد إلى المعاهد كما تقول: ميثاق الله وعهد الله. أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس. ثم على هذا القول ما
نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد ﷺ وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
والذي يدل على صحته ما
روي أنه ﷺ قال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي» «١»
فهذا على سبيل الفرض والتقدير، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفا. وقيل: المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف، أو أمة النبيين فقد ورد كثيرا في القرآن لفظ النبي ﷺ ويراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] وقيل: النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد ﷺ لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد ﷺ فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم. وروي عن ابن عباس أنه قيل له: إن أصحاب عبد الله يقرأون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فقال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم لَما آتَيْتُكُمْ من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان: أحدهما: أن «ما» تكون موصولة واللام للابتداء وخبره لَتُؤْمِنُنَّ واللام فيه جواب القسم المقدور. والعائد الى الموصول في آتَيْتُكُمْ محذوف وفي جاءَكُمْ ما يدل عليه لِما مَعَكُمْ لأنه في معنى «ما آتيتكم» والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به- وثانيهما- واختاره سيبويه وغيره- كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال: أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف. و «ما» هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء، وليس هاهنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة. فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جوابا للقسم ظاهرا، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في «لتؤمنن» و «لتنصرن» وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط. ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه. ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضا وجهان: أحدهما أن تكون «ما»

(١) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١، ٦. أحمد في مسنده (٤/ ١٢٦). [.....]

صفحة رقم 198

مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول الله ﷺ موافقا لكم في الأصول لتؤمنن به، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء. والثاني أن تكون «ما» موصولة وبيان الرابط كما مر. وعن سعيد بن جبير لَما بالتشديد بمعنى «حين». وقيل: أصله «لمن ما» أي لمن أجل ما آتيتكم. أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة. وفي جميع القراآت قيل: لا بد من إضمار بأن يقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم. قلت: هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل: وإذ أخذت أو أخذنا. ولما في أخذ الميثاق من معنى القول. ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه الكتاب. و «من» للبيان أو للتبعيض. وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال. والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع. فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه السلام وأن الحق في زمان محمد ﷺ ليس إلا شرعه عليه السلام. ولو قلنا: إن المراد بالرسول هو محمد ﷺ فالمراد إما ما ذكرنا أو أن نعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة، فكان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم. والظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقا لما معهم. وقيل: يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه. وقيل: المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته ﷺ في كتب الأنبياء المتقدمين، فإذا صارت أحواله ﷺ مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنبيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء. أقول والله أعلم: يحتمل أن يراد بقوله ثُمَّ جاءَكُمْ

صفحة رقم 199

المجيء في الزمان الماضي، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتابا وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قبله موافقا لما معه وينصر دينه بأن يظهر حقيته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق، فتكون هذه الآية تمهيدا لما يجيء بعد من قوله: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية. قالَ الله أو كل نبي لأمته مستفهما بمعنى الأمر أَأَقْرَرْتُمْ بالإيمان به والنصرة؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق. وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه. وَأَخَذْتُمْ أي قبلتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي عهدي. والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة: ٤٨] أي لا يقبل. ويأخذ الصدقات أي يقبلها. سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال: فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. وفي قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وأنه لا يخفى عليه خافية، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. وقيل: فاشهدوا خطاب للملائكة. وقيل:
معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه كقوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف:
١٧٢] وقيل: بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به.
وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى. وقيل: استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له، أو يكون خطابا للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم. ثم ضم الى التوكيد الوعيد بقوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن دين الله وطاعته، ووعيد الفساق المردة معلوم. ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في «أقررتم» و «أخذتم» أو للالتفات بعد قوله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين، وفي الثاني إلى جميع المكلفين. والأصل أفتبتغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة هاهنا متوجه إلى الدين الباطل.
وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله ﷺ فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى الله عليه وسلم: كل الفريقين بريء من دين إبراهيم. فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت.
وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها، ولكن

صفحة رقم 200

الاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها. فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد، كانوا طالبين دينا غير دين الله، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون. ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه، فهو ذليل بين يدي قدرته، خاضع لجلال قدره في طرفي وجوده وعدمه عقلا كان أو نفسا أو روحا أو جسما أو جواهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا. ونظير الآية وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: ١٥] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده طَوْعاً وَكَرْهاً وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك: أتاني ركضا أي راكضا. ولو قلت أتاني كلاما أي متكلما لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيان. فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وكرها في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. وأما الكافرون فينقادون في الدين كرها أي خوفا من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب.
وعن الحسن: الطوع لأهل السموات، والكره لأهل الأرض. أقول: وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره. وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعا، ومن شاهد الجلال أسلم كرها. فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهرا وباطنا، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره. ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله، أمر النبي ﷺ بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه. أما وجه التوحيد في قُلْ فظاهر، بناء على ما قلنا. وأما وجه الجمع في آمَنَّا فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [البقرة: ٢٨٥] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك. وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إليه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضا وكذبوا بعضا، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق. ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في

صفحة رقم 201

تفسير قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: ٨١] فههنا قد أخذ الميثاق على محمد ﷺ بأن يؤمن بكل رسول كان قبله ولم يؤخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده فيكون في الآية دليل على أنه لا نبي بعده.
واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب «على» تارة كما في هذه الآية، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة. فنطق القرآن بالاعتبارين جميعا.
وقيل: عدي هناك ب «إلى» لمكان قولوا فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء، وعدي هاهنا ب «على» لمكان قُلْ. فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: ٤٨] وبقوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ٧٢]. والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا فليسوا من الإسلام في شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب. والخاسرون هاهنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة. وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد إذ لو كان الإيمان غير الإسلام كان غير مقبول، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله للآية. وقد ذكرنا مرارا أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الاعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان، وعلى الفرق ورد قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: ١٧] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ واختلف في سبب النزول، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا به بغيا وحسدا وعنادا ولددا. وفي رواية أخرى عنه: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. وعن مجاهد قال: كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله ﷺ ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث: والله إنك لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم

صفحة رقم 202

لأصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة، ثم رجع فأسلم إسلاما حسنا. قالت المعتزلة في الآية:
إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذورا ولا يحسن ذمه على الكفر. ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل. قالوا: فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩] وقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: ١٧] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: ١٦٨] وقوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يونس: ٩] وقال أهل السنة: المراد بالهداية خلق المعرفة. وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟ وقال أهل التحقيق: كيف يهدي الله إليه قوما احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية. وقوله: وَشَهِدُوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: ١٠] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوما كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث- أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات- توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد. وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلا أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ إلى قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وقد مر مثله في البقرة. وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر العظيم. ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال: وَأَصْلَحُوا أي باطنهم مع الحق بالمراجعات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ في الدنيا بالستر رَحِيمٌ في الآخرة بالعفو. أو غفور بإزالة العقاب،

صفحة رقم 203

رحيم بإعطاء الثواب. قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين. ثم اختلفوا فقيل: إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد ﷺ قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه كل وقت، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم. وقيل: إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد ﷺ والقرآن. وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون. وقيل: عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر. ثم إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها، وهذا يوهم التناقض. وأيضا ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال الحسن وقتادة وعطاء: المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت، والتوبة حينئذ لا تقبل لقوله تعالى:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: ١٨] وقيل: هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص. وقال القاضي والقفال وابن الأنباري: هي من تتمة قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة. وقيل: لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه. أقول: ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية عن الموت على الكفر كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر. وفائدة هذه الكناية تصوير كونهم آيسين من الرحمة. هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين، أما على تقدير التعميم فنقول: إنما يجعل الموت على الكفر لازما لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذ لا تكون كلية. فكم من مرتد أو يهودي مزداد الكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية. ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وأنه لا بد للعدول من فائدة، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف. والحاصل أنه

صفحة رقم 204

كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمية والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منهما بقدم الإنابة.
واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام: أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجه. وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة. وملء الشيء قدر ما يملؤه وذَهَباً نصب على التمييز.
وربما يقال على التفسير. ومعناه أن يكون الكلام تاما إلا أنه يكون مبهما كقولك «عندي عشرون» فالعدد معلوم والمعدود مبهم. فإذا قلت «درهما» فسرت العدد. ومعنى الفاء في فَلَنْ يُقْبَلَ أن يعلم أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع. هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف. وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم. والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيدا للزوم وتغليظا في الوعيد والله أعلم. أما الواو في قوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري: إنها للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقيل: إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهبا يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقيل: إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب. وقيل: إنه محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. وقيل: يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ [الزمر: ٤٧] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم مثل: ضربت ضرب زيد. أي مثل ضربه.
و «أبو يوسف أبو حنيفة» تريد مثله. كما أنه يراد به في نحو قولهم «مثلك لا يفعل» كذا أي أنت. وذلك أن المثلين يقوم أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد. فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير، والذهب

صفحة رقم 205

كناية عن أعز الأشياء. والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعا للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه. ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ قال أهل التحقيق: وماتوا أي ماتت قلوبهم أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بموت القلب وفقد المعرفة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا...

صفحة رقم 206
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية