آيات من القرآن الكريم

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ

إلها رموا مريم بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) أي من الشاكين فيما بينت لك من تخليق عيسى بلا أب، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم تحريكا له لزيادة ثباته على اليقين ولكل سامع لينزع عما يورث الامتراء،
ثم ذكر الله تعالى خصومة وفد نجران مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما بين لهم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فقالوا: ليس كما تقول: إن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه فقال الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ أي خاصمك من نصارى نجران فِيهِ أي في شأن عيسى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدلائل الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا أي نخرج بأنفسنا وَأَنْفُسَكُمْ أي اخرجوا بأنفسكم ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نجتهد في الدعاء ونخلصه أو نلاعن بيننا وبينكم فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ فيما بيننا عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) على الله في حق عيسى وهم من يقولون: إن عيسى ابن الله أو أنه إله.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم» فقالوا يا أبا القاسم: حتى نرجع فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غدا فلما رجعوا إلى قومهم قالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم-: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال:
والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلا الإقامة عفى دينكم والإصرار على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد خرج من بيته إلى المسجد، وعليه مرط من شعر أسود، محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول لهؤلاء الأربعة: «إذا دعوت فأمنوا». فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها ولو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا، ثم قالوا يا أبا القاسم: رأينا أنا لا نباهلك وأن نثبت على ديننا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين». فأبوا، فقال: «إني أناجزكم القتال» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة. ألفا في صفر وألفا في رجب. وثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح فصالحهم رسول الله على ذلك
. إِنَّ هذا الذي ذكرت من الدلائل التي دلت على أن عيسى لم يكن الله ولا ولده، ولا شريكه، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ دون أكاذيب النصارى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ بلا شريك ولا ولد ولا زوجة وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يمنع القادر على جميع المقدورات الْحَكِيمُ (٦٢) أي العالم بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العزيز الحكيم هاهنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى القدرة على الإحياء ونحوه

صفحة رقم 130

وأخبار الغيوب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) أي فإن أبوا عن قبول الحق وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عالما قادرا على جميع المقدورات عالما بالنهايات، محيطا بالمعلومات مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك ومع قولهم: إن اليهود قتلوه فاعلم أن آباءهم وأعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوّض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، مطّلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس: وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر على نصارى نجران أنواع الدلائل أولا، ثم دعاهم إلى المباهلة ثانيا، فخافوا وقبلوا الصغار بأداء الجزية، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمانهم فعدل إلى رعاية الإنصاف وترك المجادلة. فكأنه تعالى قال: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم إنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر النصارى تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا البعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه.
وقيل: نزلت في حق يهود المدينة. وقيل: نزلت في شأن الفريقين وذلك لما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود، واختصموا في دين إبراهيم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وأنهم على دينه، وأولى الناس به. وقالت اليهود: بل كان يهوديا ونحن على دينه وأولى الناس به.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه. بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» «١» فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي يا معشر اليهود والنصارى: هلموا إلى قصة عادلة مستقيمة بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب فإذا آمنا نحن وأنتم بها كنا على السواء والاستقامة، ثم فسر الكلمة بقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أي أن نوحده بالعبادة ونمحضه بها وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أي ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نعتقده أهلا لأن يعبد وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يطيع أحد منا أحدا من الرؤساء في معصية الله تعالى وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل، ولا نقول عزير بن الله ولا المسيح بن الله لأنهما بشران مثلنا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أبوا إلا الإصرار على الشرك فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) أي فأظهر
أنت والمؤمنون بأنكم على هذا الدين وقولوا: اعترفوا بأنا مقرون بالتوحيد والعبادة لله تعالى دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب

(١) رواه القرطبي في التفسير (٤: ١٢٧).

صفحة رقم 131

عليكم أن تعترفوا بذلك، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام. يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي لم تخاصمون في دين إبراهيم ولم تدّعون أن إبراهيم عليه السلام كان منكم وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ على موسى وَالْإِنْجِيلُ على عيسى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إبراهيم بزمن طويل، إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة. وبين موسى وعيسى ألفا سنة. وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية، وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) أي أتدعون أن إبراهيم منكم فلا تعقلون بطلان ادعائكم ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ أي ها أنتم يا هؤلاء اليهود والنصارى خاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ في كتابكم أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وأن محمدا نبي مرسل وهو موجود في كتابكم بنعته فأنكرتم ذلك فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ في كتابكم لأنه ليس لدين إبراهيم ذكر في كتابكم أصلا، ولم تدّعون أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) كيفية تلك الأحوال ثم بيّن الله تعالى ذلك مفصلا وكذبهم فيما ادعوه من موافقة إبراهيم لهما فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا أي ليس إبراهيم على دين اليهود ولا على دين النصارى وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة كلها مُسْلِماً أي على ملة التوحيد لا على ملة الإسلام الحادثة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) وهذا تعريض بكون اليهود والنصارى مشركين بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله، ورد على المشركين في ادعائهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي إن أقرب الناس إلى دين إبراهيم وأخصهم به لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في زمانه وَهذَا النَّبِيُّ محمد وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد فهم الذين يليق أن يقولوا نحن على دينه لأن غالب شرع محمد موافق لشرع إبراهيم أي إن أحق الناس بدين إبراهيم فريقان: أحدهما: من اتبعه من أمته. وثانيهما: النبي وسائر المؤمنين من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) أي ناصرهم وحافظهم ومكرمهم، ثم ذكر دعوة كعب بن الأشرف وأصحابه لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ وحذيفة وعمار بعد يوم أحد إلى دينهم اليهودية عن دين الإسلام فقال: وَدَّتْ طائِفَةٌ أي تمنت مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أي أن يضلوكم عن دينكم الإسلام وَما يُضِلُّونَ عن دين الله إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين وهم صاروا خائبين حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوّروه وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) إن هذا نصرهم لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم وتمنى إضلال المسلمين. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وهي الواردة في التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإخبار بأن الدين هو الإسلام وبأن إبراهيم كان حنيفا مسلما وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) صحتها إذا خلا بعضهم من بعض، وتنكرون اشتمال التوراة والإنجيل

صفحة رقم 132
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية