
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)[في قوله تعالى إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ إلى قوله تعالى يَوْمِ الْقِيامَةِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ قَوْلُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ وُجِدَ هَذَا الْمَكْرُ إِذْ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: ذَاكَ إِذْ قَالَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَرَفُوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّفَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: ١١٧] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ فِيهَا وَالثَّانِي: فَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهَا، أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُتَمِّمٌ عُمُرَكَ، فَحِينَئِذٍ أَتَوَفَّاكَ، فَلَا أَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكَ، بَلْ أَنَا رَافِعُكَ إِلَى سَمَائِي، وَمُقَرِّبُكَ بِمَلَائِكَتِي، وَأَصُونُكَ عَنْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِكَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَالثَّانِي: مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالُوا: وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَصِلَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ وَهْبٌ: تُوُفِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَثَانِيهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ وَرَفَعَهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ تَعَالَى تَوَفَّاهُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزُّمَرِ: ٤٢].
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَأَمَّا كَيْفَ يَفْعَلُ، وَمَتَى يَفْعَلُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ حَيٌّ
وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سَيَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ»
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ وَحُظُوظِ نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِرْ فَانِيًا عَمَّا سِوَى اللَّهِ لَا يَكُونُ لَهُ وُصُولٌ إِلَى مَقَامِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَأَيْضًا فَعِيسَى لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي زَوَالِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ هُوَ رُوحُهُ لَا جَسَدُهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ بِتَمَامِهِ إِلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَبِجَسَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
[النِّسَاءِ: ١١٣].
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى لِأَنَّهُ إِذَا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَأَثَرُهُ عَنِ الْأَرْضِ كَانَ كَالْمُتَوَفَّى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ فِي أَكْثَرِ خَوَاصِّهِ وَصِفَاتِهِ جَائِزٌ حَسَنٌ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ الْقَبْضُ يُقَالُ: وَفَّانِي فُلَانٌ دَرَاهِمِي وَأَوْفَانِي وَتَوَفَّيْتُهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ دَرَاهِمِي إِلَيَّ وَتَسَلَّمْتُهَا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا تُوُفِّيَ بِمَعْنَى اسْتَوْفَى وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ كَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ صفحة رقم 237

الْأَرْضِ وَإِصْعَادُهُ إِلَى السَّمَاءِ تَوَفِّيًا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ التَّوَفِّي عَيْنَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تَكْرَارًا.
قُلْنَا: قَوْلُهُ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّوَفِّي وَهُوَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا بِالْمَوْتِ وَبَعْضُهَا بِالْإِصْعَادِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ كَانَ هَذَا تَعْيِينًا لِلنَّوْعِ وَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مُتَوَفِّي عَمَلِكَ بِمَعْنَى مُسْتَوْفِي عَمَلِكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ وَرَافِعُ عَمَلِكَ إِلَيَّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: ١٠] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِقَبُولِ طَاعَتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ فِي تَمْشِيَةِ دِينِهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَتِهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ وَلَا يَهْدِمُ ثَوَابَهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجْرِي الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهَا إِلَى تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَفَعَهُ حَيًّا، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِي إِيَّاكَ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا تُغْنِي عَنِ الْتِزَامِ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُشَبِّهَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ المكان لله تعالى وأنه في المساء، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي الْمَوَاضِعِ الْكَثِيرَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ/ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، وَجَعَلَ ذَلِكَ رَفْعًا إِلَيْهِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصَّافَّاتِ: ٩٩] وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ وَقَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ: ارْفَعُوا هَذَا الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَقَدْ يُسَمَّى الْحُجَّاجُ زُوَّارَ اللَّهِ، وَيُسَمَّى الْمُجَاوِرُونَ جِيرَانَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ فَكَذَا هَاهُنَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فَلَا حَاكِمَ هُنَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الظَّاهِرِ إِلَّا اللَّهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَكُنِ ارْتِفَاعُ عِيسَى إِلَى ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِهِ وَفَرَحِهِ بَلْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ لَوْ وَجَدَ هُنَاكَ مَطْلُوبَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّيْحَانِ، فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَرَافِعُكَ إِلَى مَحَلِّ ثَوَابِكَ وَمُجَازَاتِكَ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ عِيسَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمَعْنَى مُخْرِجُكَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَمُفَرِّقٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَكَمَا عَظَّمَ شَأْنَهُ بِلَفْظِ الرَّفْعِ إِلَيْهِ أَخْبَرَ عَنْ مَعْنَى التَّخْلِيصِ بِلَفْظِ التَّطْهِيرِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِ مَنْصِبِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِينَ اتَّبَعُوا دِينَ عِيسَى يَكُونُونَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ بِالْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ وَالِاسْتِعْلَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونوا مَقْهُورِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ وَإِنْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُوَافَقَتَهُ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ أَشَدَّ الْمُخَالَفَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ يَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَرْضَى بِشَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ النَّصَارَى فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ وَأَقْوَى مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ فَلَا نَرَى فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الدُّنْيَا مُلْكًا يَهُودِيًّا وَلَا بَلْدَةً مَمْلُوءَةً مِنَ الْيَهُودِ بَلْ يَكُونُونَ أَيْنَ كَانُوا بالذلة والمسكنة وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَمْرُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةُ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ فِي قَوْلِهِ وَرافِعُكَ إِلَيَّ هُوَ الرِّفْعَةُ بِالدَّرَجَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، لَا بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، كَمَا أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ فِي هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَكَانِ بَلْ بِالدَّرَجَةِ وَالرِّفْعَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا تِلْكَ الْخَوَاصَّ الشَّرِيفَةَ، وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةَ الْعَالِيَةَ، وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ/ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَبَيْنَ الْجَاحِدِينَ بِرِسَالَتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ وَهُوَ أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حِينَ رَفَعَهُ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَ:
وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النِّسَاءِ: ١٥٧] وَالْأَخْبَارُ أَيْضًا وَارِدَةٌ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ، فَتَارَةً يُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ دَلُّوا الْيَهُودَ عَلَى مَكَانِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَتَارَةً يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَغَّبَ بَعْضَ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ فِي أن يلقي شبهه حَتَّى يُقْتَلَ مَكَانَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَيْفَمَا كَانَ فَفِي إِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى الْغَيْرِ إِشْكَالَاتٌ:
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا إِلْقَاءَ شَبَهِ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ لَزِمَ السَّفْسَطَةُ، فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ وَلَدِي ثُمَّ رَأَيْتُهُ ثَانِيًا فَحِينَئِذٍ أُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي رَأَيْتُهُ ثَانِيًا لَيْسَ بِوَلَدِي بَلْ هُوَ إِنْسَانٌ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ، وَأَيْضًا فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ رَأَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْرِفُوا أَنَّهُ مُحَمَّدٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الشَّرَائِعِ، وَأَيْضًا فَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا جَازَ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِي الْمُبْصَرَاتِ كَانَ سُقُوطُ خَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْلَى وَبِالْجُمْلَةِ فَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ إِبْطَالُ النُّبُوَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَالْإِشْكَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْمَائِدَةِ: ١١٠] ثُمَّ إِنَّ طَرَفَ جَنَاحٍ وَاحِدٍ مِنْ أَجْنِحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَكْفِي الْعَالَمَ مِنَ الْبَشَرِ فَكَيْفَ لَمْ يَكْفِ فِي مَنْعِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَنْهُ؟ وَأَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَكَيْفَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِمَاتَةِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَصَدُوهُ بِالسُّوءِ وَعَلَى إِسْقَامِهِمْ وَإِلْقَاءِ الزَّمَانَةِ وَالْفَلَجِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصِيرُوا عَاجِزِينَ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ؟.
وَالْإِشْكَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ بِأَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَمَا الْفَائِدَةُ