آيات من القرآن الكريم

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

كان المراد أنهما هُدىً في ذاتهما، مَدْعُوٌّ إليه فرعَوْنُ وغَيْرُه، فالناسُ عامٌّ في كل من شاء حينئذ أن يستبصر، والْفُرْقانَ: القرآن لأنه فَرَقَ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، ثم توعَّد سبحانه الكفَّارَ عموماً بالعذابِ الشديدِ، والإشارةُ بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وعَزِيزٌ:
معناه: غالبٌ، والنقمة والاِنتقام: معاقبةُ المذْنِبِ بمبالغةٍ في ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥ الى ٧]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ: هذه الآية خَبَرٌ عن علْمِ اللَّه تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفةٌ لَمْ تكُنْ لعيسى، ولا لأحدٍ من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تَصْويره للبَشَرِ في أرحامِ الأمَّهاتِ، وهذا أمر لا ينكرُهُ عاقلٌ، ولا ينكر أنَّ عيسى وسائر البَشَر لا يقْدِرُونَ عليه، ولا ينكر أنَّ عيسى من المصوَّرِينَ كغيره من سائرِ البَشَر، فهذه الآية تعظيمٌ للَّه جلَّتْ قُدْرته في ضِمْنِها الرَّدُّ على نصارى نَجْران، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ: وعيد، وشرح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفيَّة التصْويرِ في الحديثِ الَّذي رواه ابنُ مَسْعُودٍ وغيره «أنَّ النُّطْفَةَ، إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكاً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَذَكَرْ/ أَمْ أنثى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ... » الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه «١»، وفي مسندِ ابن «سِنْجَر» حديثٌ «أنَّ اللَّهَ سُبْحَانه يَخْلُقُ عِظَامَ الجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَلَحْمَهُ وَشَحْمَهُ وَسَائِرَ ذَلِكَ مِنْ مَنِيِّ المَرْأَةِ»، وَصَوَّرَ: بناءُ مبالغةٍ من صَارَ يَصُورُ، إِذا أمال وثنى إلى حالٍ مَّا، فلما كان التصويرُ إمالةً إلى حال، وإِثباتاً فيها، جاء بناؤه على المُبَالغة، والكتابُ في هذه الآية: القرآن، بإِجماع، والمُحْكَمَاتُ:
المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ، والمُتَشَابِهَاتُ: هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ، ويظهر فيها ببَادِي النَّظَرِ: إِما تَعَارُضٌ مع أخرى، وإما مع العَقْل إِلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» «٢»، أي: يكون الشيء حراما في نفسه،

(١) تقدم تخريجه. [.....]
(٢) ورد ذلك من حديث النعمان بن بشير، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله. -

صفحة رقم 8

فَيُشْبِهُ عند من لَمْ يُنْعِمِ النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية: يكونُ لها في نفسها معنًى صحيحٌ، فيشبه عنْد مَنْ لم ينعمِ النظر، أو عند الزائغِ معنًى آخر فاسداً، فربَّما أراد الاِعتراضَ به على كتاب اللَّه، هذا عندي معنَى الإِحكام والتشابُهِ في هذه الآية.

- فأما حديث النعمان، فأخرجه البخاري (١/ ١٥٣) في الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه (٥٢)، و (٤/ ٣٤٠) في البيوع: باب الحلال بيّن، والحرام بين، وبينهما مشتبهات (٢٠٥١)، ومسلم (٣/ ١٢١٩- ١٢٢١)، في المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات (١٠٧، ١٠٨/ ١٥٩٩)، وأبو داود (١/ ٢٦٣) في البيوع، باب في اجتناب الشبهات (٣٣٢٩، ٣٣٣٠). والنسائي (٧/ ٢٤١) في البيوع:
باب اجتناب الشبهات في الكسب. والترمذي (٣/ ٥١١) في البيوع: باب ما جاء في ترك الشبهات (١٢٠٥). وابن ماجة (٢/ ١٣١٨) في الفتن، باب الوقوف عند الشبهات (٣٩٨٤)، وأحمد (٤/ ٢٦٩، ٢٧٠)، والدارمي (٢/ ٢٤٥) في البيوع، باب في الحلال بين، والحرام بين. والحميدي (٩١٨)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١/ ٣٢٤)، والبيهقي (٥/ ٢٦٤) في البيوع: باب طلب الحلال، واجتناب الشهوات، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٢٦٩- ٢٧٠)، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص ٣١٧).
والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (٤/ ٢٠٧) في البيوع: باب الاتقاء عن الشبهات (٢٠٢٤)، من طرق عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله. إلا وهي القلب».
وأخرجه أحمد (٤/ ٢٦٧)، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان، عن عاصم، عن خيثمة. والشعبي عن النعمان مرفوعا بنحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث عمار بن ياسر، فأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (١٦٥٣). والطبراني في «الكبير»، و «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٤/ ٧٦)، من طريق موسى بن عبيدة، أخبرني سعد بن إبراهيم عمن أخبره، عن عمار بن ياسر رفعه: «إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما شبهات. من توقاهن كن وقاء لدينه، ومن يوقع فيهن يوشك أن يواقع الكبائر، كالمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى».
وقال الهيثمي (٤/ ٧٦، ١٠/ ٢٩٦) : فيه موسى بن عبيدة، وهو متروك. وقال الحافظ في «المطالب» (١٢٥٤) : إسناده ضعيف.
وأما حديث ابن عباس، فأخرجه الطبراني في «الكبير» (١٠/ ٤٠٤) برقم (١٠٨٢٤)، من طريق الوليد بن شجاع، حدثني أبي، ثنا سابق الجزري أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب أخبره عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك شبهات. فمن أوقع بهن فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه، كمرتع إلى جنب حمى أوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله الحرام».
قال الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٩٧) فيه سابق الجزري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث جابر، فأخرجه الخطيب في «التاريخ» (٦/ ٧٠)، من طريق سعيد بن زكريا المدائني، حدثنا الزبير بن-

صفحة رقم 9

قال ع «١» : وأحسنُ ما قيل في هذه الآية قولُ محمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيرِ»
أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ، وعصمةُ العبادِ، ودفْعُ الخصومِ والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه، والمُتَشَابِهَاتُ: لها تصريفٌ وتحريفٌ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد «٣»، قال ابن الحاجِبِ في «منتهَى الوُصُولِ» : مسألةٌ في القرآن محكمٌ ومتشابهٌ، قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فالمُحُكَمُ:
المتَّضِح المعنى، قال الرهوني: يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً، والمُتَشَابَهُ: مقابله إمَّا للاشتراك مثل: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨]، أو للإجمالِ مثلُ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٧] وما ظاهره التّشبيه مثل: مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢]، وأَيْدِينا [يس: ٧١]، وبِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وبِيَمِينِهِ [الزمر: ٦٧]، ويَسْتَهْزِئُ [البقرة: ١٥]، ومَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: ٥٤] ونحوه، والظاهرُ: الوقْفُ على: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ. انتهى.
قال الرهونيُّ: وسمِّي ما ذكر «مُتَشَابِهاً» لاشتباهه على السامِعِ، قال الرهونيُّ:
والحقُّ الوقْفُ على: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وهو المرويُّ عن جماعة منهم: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمر، وابنْ مسعودٍ، ومالكٌ، وغيرهم، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ: «وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ [في العلْمِ] «٤» آمنا بِه» «٥». اهـ.
وقوله تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، أي: معظم الكتاب، وعُمْدة ما فيه: إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ قد فُصِّلَ، ولم يفرَّطْ في شيء منه، قال يَحْيَى بْنُ يعمر «٦» : كما يقال

- سعيد الهاشمي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رفعه بنحوه.
ثم قال: أخبرنا أحمد بن أبي جعفر أخبرنا محمد بن عدي البصري- في كتابه- حدثنا أبو عبيد محمد بن علي الآجري قال: سألت أبا داود عن سعيد بن زكريا المدائني فقال: سألت يحيى عنه فقال:
ليس بشيء.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠١).
(٢) محمد بن جعفر بن الزّبير بن العوّام الأسدي، عن عمه عروة، وابن عمه عبّاد بن عبد الله، وعنه عبيد الله بن أبي جعفر، وابن إسحاق، وجماعة، وثقه النسائي.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٣٨٨).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ١٧٤) برقم (٦٥٨٤)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٦٩)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٠١).
(٤) سقط في: أ.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١/ ١٨٣) برقم (٦٦٢٤) وعبد الرزاق (١/ ١١٦).
(٦) يحيى بن يعمر القيسي، الجدلي العدواني البصري، عن أبي ذر وأبي هريرة، وعلي، وعمّار، وعائشة، -

صفحة رقم 10

لمكَّة أمُّ القرى.
قال ع «١» : وكما يقالُ: أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ، والمذمَّةُ لهم، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ، فذكر تعالى أنه نزّل الكتاب/ على نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم إِفضالاً منه، ونعمةً وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه، والغالِبُ فيه وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم، ويتبعونَ المتشَابِه ابتغاء الفِتْنَةِ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم.
م: قال أبو البقاءِ: وَأُخَرُ: معطوف على آياتٌ، ومُتَشابِهاتٌ: نعت ل أُخَرُ.
وقوله تعالى: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ: الميل، وابْتِغاءَ: نصبٌ على المفعولِ من أجله، ومعناه: طلبُ الفِتْنَة، قال الربيع: الفِتْنَة هنا الشرْكُ، وقال مجاهدٌ: الفتْنَةُ: الشبهاتُ، واللَّبْسُ على المؤمنين، ثم قال: وابتغاء تأويلِهِ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ، وَمَرْجِعُهُ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي، وهو من: آلَ يَئولُ، إذا رجع، فالمعنى: وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل، بل يوقَفُ فيه، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، أي: وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه.
واختلف في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ (عَزَّ وجلَّ) وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ: آمَنَّا بِهِ، وقالتْ طائفةٌ أخرى: والراسخُونَ: رفْع بالابتداء، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول، وخبره «يَقُولُونَ»، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده.

- وابن عباس، وعنه ابن بريدة، وعكرمة، وقتادة، وسليمان التيمي.
قال أبو داود: لم يسمع من عائشة، وثقه أبو حامد، توفي قبل التسعين «بخراسان».
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١٦٤- ١٦٥).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠١).

صفحة رقم 11

قال ع «١» : وهذه المسألة إذا تأمّلت، قَرُبَ الخلافُ فيها من الاِتفاقِ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى قسَّم آي الكتابِ قسْمَيْن محكمًا ومتشابهًا، فالمُحْكَم هو المتَّضِحُ المعنى لكلِّ من يفهم كلامَ العَرَب، لا يحتَاجُ فيه إِلى نظر، ولا يتعلَّق به شيء يلبِّس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره، والمتشابه على نوعَيْن، منه: ما لا يُعْلَمُ البتَّةَ كأمر الرُّوح، وآمادِ المغيَّبات التي قد أعْلَمَ اللَّه بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه: ما يُحْمَلُ على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلامِ العربِ، فَيُتَأوَّلُ، ويُعْلَم تأويله، ولا يسمَّى أحدٌ راسِخاً إلاَّ أنْ يعلم من هذا النوع كثيراً بحَسَب ما قُدِّر له، فمَنْ قال: إن الراسخين لا يعلمون تأويله، فمراده النوْعُ الثاني الَّذي ذكرناه، ومَنْ قال: إن الراسخين لا يعلَمُونَ تأويله، فمراده النوع الأول كأمر الرُّوح، ووقْتِ الساعةِ، لكنَّ تخصيصه المتشابه بهذا النوعِ غيرُ صحيحٍ، بل هو نوعانِ كما ذكرنا، والضمير في تَأْوِيلِهِ عائدٌ على جميع متشابه القرآن، وهما نوعانِ كما ذكرنا، والرُّسُوخُ: الثبوتُ في الشيءِ، وسئل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، فَقَالَ: «هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، واستقام قَلْبُهُ» «٢»، قُلْتُ: ومن «جامعِ العَتَبِيَّةِ»، وسُئِل مالكٌ عن تفسيرِ الراسخين في العلم، فقال: العالمون العالمون بما علموا، المتَّبِعُونَ له، قال ابنُ رُشْدٍ: قولُ مالِكٍ هذا هو معنى ما رُوِيَ من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ: مَنِ الراسِخُ في العِلْمِ؟
فقالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وصَدَقَ لِسَانُهُ، / واستقام بِهِ قَلْبُهُ، وعَفَّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ» قال ابنُ رُشْدٍ: ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ (عز وجل) : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه، فَلَيْسَ بعالمٍ. انتهى.
قلت: وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ، فمن أحسنها: ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده، عن معاذِ بنِ جَبلٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم،

(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠٣).
(٢) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨/ ١٧٧- ١٧٨) رقم (٧٦٥٨)، من طريق عبد الله بن يزيد بن آدم، حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦/ ٣٢٧)، وقال: وفيه عبد الله بن يزيد، وهو ضعيف.

صفحة رقم 12
الجواهر الحسان في تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية