
بسماع ندائه واستجابة دعائه- سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهى على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله:
(قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته: كذلك الله يفعل ما يشاء، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شىء، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.
(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي قال: رب اجعل لى علامة تدلنى على الحمل، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.
(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له، وسبحه في الصباح والمساء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)

تفسير المفردات
الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال، والتطهير يعم التطهير الحسى كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبى من غير أن يمسها رجل، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هى مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود، والقنوت: الطاعة مع الخضوع، والسجود: التذلل، والركوع: الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة والوحى جاء في القرآن لمعان:
(١) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى: «نُوحِي إِلَيْهِمْ».
(٢) وللإلهام كما قال تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى».
(٣) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها».
(٤) وللإشارة كما قال تعالى: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا».
فالوحى تعريف الموحى إليه بأمر خفىّ من إشارة أو كتابة أو غيرهما، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها، ويختصمون: أي يتنازعون في كفالتها.
المعنى الجملي
هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.
(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية، واختصك بولادة نبى دون أن يمسسك رجل، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار، ويؤيده
قوله ﷺ «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون»
أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه ﷺ قال: «كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة».
وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال:
(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم، بل هى وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين، لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.
(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.
(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل