
سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠) }
شرح الكلمات:
﴿لا يَغُرَّنَّكَ﴾ : لا يكن منك اغترار، المخاطب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أصحابه وأتباعه.
﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ﴾ : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب.
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواماً وينتهي.
﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ : مآلهم بعد التمتع القليل إلى جهنم يأوون إليها فيخلدون فيها أبداً.
﴿نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ : النزل: ما يعد للضيعف من قرى: طعام وشراب وفراش.
الأبرار: جمع بار، وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ : القرآن والسنة، وما أنزل إليهم؛ التوراة والإنجيل.
﴿خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ : مطيعين مخبتين له عز وجل.
﴿لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ : لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع تحصل لهم.
﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا١﴾ : الصبر: حبس النفس على طاعة الله ورسولهن والمصابرة: الثبات والصمود أمام العدو.
﴿وَرَابِطُوا﴾ : المرابطة: لزوم الثغور منعاً للعدو من التسرب إلى ديار المسلمين.
﴿تُفْلِحُونَ﴾ : تفوزون بالظفر المرغوب، والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.

معنى الآيات:
ينهى الله تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة في شخصية نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغرهم١، أي: يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرباح وما يتمتعون به من مطاعم ومشارب ومراكب، فيظنوا أنهم على هدى أو أن الله تعالى راضٍ عنهم وغير ساخط عليهم، لا، لا، إنما هو متاع في الدنيا قليل، ثم يردون إلى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التي طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصي، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود في جهنم. هذا معنى الآيتين الأولى والثانية وهما قوله تعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ٢ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، أما الآية الثالثة (١٩٨)، وهي قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ٣ لِلأَبْرَارِ﴾ فإنها قد تضمنت استدراكاً حسناً وهو لما ذكر في الآية قبلها مآل الكافرين وهو شر مآل جهنم وبئس المهاد، ذكر في هذه الآية مآل المؤمنين وهو خير مآل: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم في دار السلام خير لأهل الإيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم أن يكونوا فقراء، وأهل الكفر أغنياء موسرين، أما الآية الرابعة (١٩٩) وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب٤ِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية فإنها تضمنت الرد الإلهي على بعض المنافقين الذين أنكروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين صلاتهم على النجاشي بعد موته، إذ قال بعضهم انظروا إلى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم، وهم يريدون بهذا الطعن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون، وما أنزل
٢ روى في سبب نزول هذه الآية: أن بعضاً من المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال، واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع. فنزلت الآية.
٣ الغر، والغرور: هو الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه لمن يطمع به، ويغرر. وهو أيضاً: إظهار الأمر المضر في صورة النافع، وهو مشتق من الغرة، وهي الغفلة. يقال: رجل غر، إذا كان ينخدع لمن يخدعه. وفي الحديث: "المؤمن غر كريم".
٤ ثبت في الصحيحين: "أن النجاشي لما مات نعاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه وقال: "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه"، فخرجوا إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه". وروى غير واحد عن أنس بن مالك أنه قال: "لما توفى النجاشي، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة: ﴿وإِنَّ مِنْ أَهْل الكِتَاب... ﴾ الآية.

إليهم في التوراة والإنجيل خاشعين لله، أي: خاضعين له عابدين، لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلام الله ويخفون منه ما يجب أن يظهروه ويبينوه حفاظاً على منصب أو سمعة أو منفعة مادية، أما هؤلاء وهم: عبد الله بن سلام من اليهود وأصحمة النجاشي من النصارى، وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون حقاً المستحقون للتكريم والإنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم إياه يوم القيامة إن اله سريع الحساب، إذ يتم حساب الخلائق كلهم في مثل نصف يوم من أيام الدنيا.
هذا ما تضمنته الآية الرابعة (١٩٩)، أما الآية الخامسة والأخيرة (٢٠٠) وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا١ وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للأمة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر أعداءها حتى يُسلموا أو يسلموا القياد لها. وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا يطمع في غزوها ودخول ديارها. ولتتق الله تقوى تكون سبباً في فوزها وفلاحها بهذه الرحمة الربانية ختمن سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تنبيه المؤمنين وتحذيره من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.
٢- ما أعد لأهل الإيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها.
٣- شرف مؤمني أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشي.
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها...
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

٤- وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة١ للحصول على الفلاح الذي هو الفوز المرغوب والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.