آيات من القرآن الكريم

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

فوضح الأمر وبان الطريق، والناس في الماضي والحاضر وكل زمان: منهم من يصغي إلى الحق ويستجيب لندائه، كما فعل الكثير من الناس ومنهم بعض اليهود الذين قبلوا بالإيمان بدعوة الإسلام والقرآن، ومنهم من يجهر بمقاومة الحق، ومناصرة الباطل، والإعراض عن دعوة الله الخيّرة المحققة لنفع البشرية وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة والابتلاء في الدنيا
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٦]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
الإعراب:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ مبتدأ وخبر، جملة تامة مفيدة.
وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ: ما في إِنَّما كافة، ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي لأنها لو كانت بمعنى الذي لوجب رفع أُجُورَكُمْ على أنه الفاعل، وتقديره: إن الذي توفّونه أجوركم.
البلاغة:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ استعارة مثل قوله تَأْكُلُهُ النَّارُ لأن حقيقة الذوق تكون بحاسّة اللسان، كما أن حقيقة الأكل للإنسان والحيوان.

صفحة رقم 190

زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فيه ما يسمى في علم البديع بالمقابلة.
مَتاعُ الْغُرُورِ استعارة، شبه الدنيا بالمتاع الذي يغرر به المشتري ثم يظهر فساده، والمدلّس والمغرر هو الشيطان «١».
المفردات اللغوية:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي أن الموت مصير كل نفس ونهاية كل حي، ولا يبقى إلا وجهه الكريم تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ تعطون جزاء أعمالكم وافيا غير منقوص. ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها: أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم، والتوفية: تكميل الأجور، وما يكون قبل ذلك في القبر من روضة أو نعمة فبعض الأجور.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ نحّي عنها وأبعد، والزحزحة: التنحية والإبعاد.
فَقَدْ فازَ نال غاية مطلوبة، وسعد ونجا أي تحقق له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله، والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي العيش فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ المتاع: ما يتمتع وينتفع به مما يباع ويشترى، والغرور: مصدر غره أي خدعه، والغرور: الخداع والغش، أي أن الدنيا مثل المتاع المشترى بسبب التغرير والغش والخداع ثم يتبين له فساده ورداءته. عن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها، فإنها متاع بلاغ.
لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن أي لتعاملن معاملة المختبر، لتظهر حالتكم على حقيقتها.
فِي أَمْوالِكُمْ بإيجاب الزكاة المفروضة فيها والنفقة في سبيل الله، وبالجوائح والآفات وَأَنْفُسِكُمْ بالقتل والأسر والجراح والمخاوف والمصائب في سبيل الله وبالعبادات المفروضة، وبالأمراض وفقد الأحبة والأقارب.
أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم مشركو العرب.
أَذىً كَثِيراً كالسب والطعن في الدين والافتراء على الله والرسول والتشبيب بنسائكم.
وَإِنْ تَصْبِرُوا على ذلك، والصبر: حبس النفس على ما تكره وكظم الغيظ ومقاومة الجزع والشدة بالتقوى والرضا وَتَتَّقُوا الله بامتثال الأمر واجتناب النهي، والتقوى: الابتعاد عن المعاصي والتزام المأمورات.

(١) الكشاف ١/ ٣٦٦ [.....]

صفحة رقم 191

مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من معزومات الأمور التي يعزم عليها لوجوبها. والمعنى: أن الصبر والتقوى من صواب التدبير، وقوة الإرادة، وكمال العقل والفكر، ومن الأمور المحتمة التي لا يجوز التساهل فيها.
سبب النزول:
نزول الآية: وَلَتَسْمَعُنَّ..: روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بسند حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص من قوله السابق: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.
وذكر عبد الرزاق: أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشعر، ويحرض عليه كفار قريش في شعره.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة تسلية وتعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستمرت هذه الآيات في زيادة تسليته بأن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب، فلا تضجر ولا تحزن، وإنهم سيجازون على أعمالهم يوم القيامة، فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء.
وهي أيضا خطاب للمؤمنين ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا فاجأتهم بغتة، وهم مستعدون لتحملها، لم يرهقهم شيء، كما يرهق غير المؤمن فتضيق نفسه ويشمئز ويكره الحياة.
التفسير والبيان:
هذا إخبار عام من الله تعالى يعم جميع الخلائق بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٦- ٢٧] فكل الجن والإنس والملائكة وحملة العرش يموتون، والله وحده الحي القيوم الذي لا يموت، ينفرد بالديمومة والبقاء، فيكون آخرا كما كان أولا.

صفحة رقم 192

وفي الآية تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض وفي السماء حتى يموت، وتذوق كل نفس طعم مفارقة الروح البدن. ثم يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت، من خير أو شر، وتعطى ثواب عملها الطيب كاملا غير منقوص، ويجازى المسيء الجزاء الأوفى، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال ذرة.
وفي ذكر توفية الأجور على الطاعات والمعاصي إشارة إلى أن بعض الأجور من خير أو شر قد تصل إليهم في الدنيا أو في القبور، بدليل
ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
فمن نحّي عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة، فقد فاز بالمقصد الأسمى والمطلوب الأعلى الكامل،
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه».
وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها». اقرؤوا إن شئتم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. فاللهم وفقنا لما ندرك به الفوز بالجنة والنجاة من النار.
وما الحياة الدنيا التي نعيشها ونستمتع بها باللذات الجسدية من طعام وشراب والمعنوية من جاه ومنصب وسمو إلا كالمتاع المشترى بخداع وتغرير، ثم يتبين فساده ورداءته لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع بها، أو لأنها حقيرة متروكة فانية زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى ٨٧/ ١٦- ١٧] وقال: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها،

صفحة رقم 193

وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
[القصص ٢٨/ ٦٠]
وفي الحديث: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع» «١».
وتهوين شأن الدنيا على هذا النحو لمن آثرها على الآخرة، قال سعيد بن جبير: «إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ» «٢». فمن فضل الدنيا على الآخرة، كان كمن اشترى صفقة خاسرة، غشه فيها البائع ودلس عليه، ثم تبين له فسادها ورداءتها.
ثم أراد تعالى بعد غزوة أحد توطين النفس وتربيتها على تحمل الأهوال والشدائد والمصائب، فخاطب النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين مخبرا إياهم: أن الدنيا دار ابتلاء واختبار في الأنفس والأموال ففي الأنفس: بالقتل والأسر والجراح وأنواع المخاوف والمصائب، وفي الأموال: بالإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات، وهي مثل قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ١٥٥].
وأن المسلمين ونبيهم يسمعون ما يؤذيهم أذى كثيرا من اليهود والنصارى ومشركي العرب، والأذى قد يتناول الدين والقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الله تعالى قال للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من هؤلاء، وواصفا لهم العلاج الناجع وهو الصفح والصبر والعفو والتزام تقوى الله بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، فإن تحقق منهم ذلك آتاهم أجرين من رحمته لأن الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي التي ينبغي أن يعزمها كل أحد.

(١) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن المستورد.
(٢) الكشاف: ١/ ٣٦٦

صفحة رقم 194

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الحقائق التالية:
١- الدنيا فانية، والآخرة باقية، وكل شيء هالك إلى وجه الله الكريم، وكل حي سيموت، وأن الآخرة دار الجزاء والحساب، وأن السعادة كل السعادة، في الفوز بالجنة، والنجاة من النار.
ويسن عند احتضار الميت تلقينه الشهادة دون إعادة لئلا يضجر، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد: «لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله» لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة. ويستحب قراءة (يس) ذلك الوقت،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «اقرؤوا يس على موتاكم» «١».
وذكر الآجرّي من
حديث أم الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هوّن عليه الموت».
ويغسل الميت إلا الشهيد ويكفّن ويصلى عليه ويدفن في التراب، ويسن الإسراع في المشي بالجنازة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدّمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم».
٢- إن إيفاء الأجور على الطاعات والعقاب على السيئات مقره يوم القيامة، فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب.
٣- الدنيا غرارة تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء وهي فانية. وهي أشبه بالمتاع الحقير الذي يتمتع وينتفع به كالفأس والقدر والدلو والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه. وهذا رأي أكثر المفسرين في قوله: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ.

(١) أخرجه أبو داود.

صفحة رقم 195
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية