
عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلّدوا وتماسكوا أمام عدوّهم القوي. وقد تجلّت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذين يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٣ الى ١٤٨]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
. (١) ربّيون: قيل إنها من ربا يربو بمعنى كثر وأن الكلمة بمعنى جموع كثيرة وقيل إنها نسبة إلى الربّ ومعناها عباد الله المخلصون أو أتباع رسل الله المخلصون.
(٢) وما استكانوا: وما ذلّوا وتخاذلوا واستسلموا للمسكنة.
(٣) وإسرافنا: ما أوغلنا فيه من الأخطاء.
وفي هذه الآيات وجّه الخطاب أيضا إلى المسلمين:
١- مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال ولا قى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجىء لهم.

٢- ومنبهة بأن محمدا ليس إلّا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرّض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حلّ فيه ما هو طبيعي ومعرض له وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضرّ الله هذا شيئا وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلّا به وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣- ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) والآية:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ | وما بعدهما إلى الآية [١٤٨] |

كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدّة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمّت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر.
فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمنّاه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي ﷺ حيث قال بعضهم لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدبّ الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة.
والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه: «إنّ رسول الله ﷺ انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس لا تتمنّوا إلقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنّة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزّل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم».
ولقد أورد الخازن في سياق جملة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ قال: «إنّما الأعمال بالنّيات وإنما لكلّ امرئ ما

نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نيّة كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلّا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [١٥] وآية سورة الإسراء [١٨] وآية سورة الشورى [٢٠].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أولّ الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحقّ عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي ﷺ بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إيّاه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا ما مات أو قتل ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حينما توفي النبي ﷺ فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم: من كان يعبد محمدا فإن محمدا الجزء السابع من التفسير الحديث ١٦