
مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة وَأُولئِكَ الذين تفرقوا لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) في الآخرة بسبب تفرقهم يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أي يوم تظهر بهجة السرور على قوم وسموا ببياض الوجه والصحيفة، وإشراق البشرة. وسعى النور أمامهم ويمينهم. ويوم تظهر كآبة الخوف والحزن على قوم وسموا بسواد اللون والصحيفة، وإحاطة الظلمة بهم من كل جانب. وقرئ «تبياض» و «تسواد» فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيلقون في النار وتقول لهم الزبانية. أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة. وقال عكرمة والأصم والزجاج: أي أكفرتم يا أهل الكتاب بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانكم به قبل مبعثه فَذُوقُوا الْعَذابَ والأمر بذوق العذاب على طريقة الإهانة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) أي بسبب كفركم وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي في جنة الله وعبّر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى.
وقرئ «ابياضّت»، كما قرئ «اسوادّت» هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) أي لا يظعنون عنها ولا يموتون تِلْكَ أي الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار آياتُ اللَّهِ أي دلائل الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي بالمعنى الحق أو متلبسة بالعدل من أجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) أي ما يريد الله فردا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلا عن أن يفعله. وأما ظلم بعضهم بعضا فواقع كثيرا، وكل واقع فهو بإرادته تعالى وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) فيجازي كلا منهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت للناس حتى تميّزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك ومخالفة الرسول وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء. وقال قتادة: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة للناس وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى إيمانا كاملا كإيمانكم لَكانَ أي ذلك الإيمان خَيْراً لَهُمْ فإنهم آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العوام ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الزيادة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي ورهطة من النصارى. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) في أديانهم فيكونون مردودين عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونهم لكفرهم، والكفار لا يقبلونهم لكونهم فاسقين فيما بينهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي لن يضركم

اليهود ضررا ألبتة إلا ضررا يسيرا- وهو أذى- أي ليس على المسلمين من اليهود ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما السلام وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم: عزير ابن الله، وإما بتحريف نصوص التوراة، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أي ينهزموا من غير أن يضروكم بقتل أو أسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) أي ثم أخبركم أنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة ولا يجدون النصر قط بل يبقون في الذلة أبدا كما قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي جعلت عليهم الذلة أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك
أراضيهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي صودفوا فلا يقدرون أن يقوموا مع المؤمنين إِلَّا أن يعتصموا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي المؤمنين فالأمان الحاصل للذمي قسمان:
أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخذ الجزية.
وثانيهما: الذي فوض الله إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد. فالأول:
هو المسمى بحبل الله. والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي داموا في غضب الله أو استوجبوا لعنة الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي جعل عليهم زي الفقر. واليهود في غالب الأحوال مساكين تحت أيدي المسلمين والنصارى ذلِكَ أي لزوم الذلة والمسكنة والمكث في اللعنة بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى يحرفونها بسائر الآيات القرآنية وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا جرم. فإن الذين قتلوا الأنبياء أسلافهم، وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب إليهم كما أن التحريف من أفعال أحبارهم ينسب إلى كل من يتبعهم ذلِكَ أي الكفر والقتل بِما عَصَوْا في السبت وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) أي يتجاوزون حدود الله باستحلال المحارم. قال أرباب المعاملات مع الله: من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر لَيْسُوا أي جميع أهل الكتاب سَواءً أي فليس من آمن منهم كمن لم يؤمن مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي جماعة عدل مهتدية بتوحيد الله وهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم معهم من اليهود كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: هم عبد الله بن سلام وأخوه ثعلبة بن سلام وسعية وميس وأسيد وأسدهما ابنا كعب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود:
ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية: يَتْلُونَ

آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ أي يقرءون القرآن ساعات الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) أي يصلون التهجد في الليل. وهذا كلام مستقل والصلاة تسمى سجودا. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية وَأُولئِكَ الموصوفون بالصفات السبعة مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) أي من جملة الذين صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه. وقال ابن عباس: أي من صالحي أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويقال: مع صالحي أمة محمد في الجنة مع أبي بكر وأصحابه. واعلم أن اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة. فلما مدح الله المؤمنين منهم بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فالإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله وكتبه، والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي. فإيمان اليهود بالله مع قولهم عزير ابن الله، وكفرهم ببعض الكتب والرسل، ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته، عدم الاحتراز عن معاصي الله وإضلال الناس وصدّهم عن سبيل الله ومبادرتهم إلى الشرور. واعلم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل. وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله. وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد. فقوله تعالى: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم. وقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم، فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية، وذلك أكمل أحوال الإنسان وهي المرتبة التي هي آخر درجات الإنسانية، وأول درجات الملكية. واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية وقوته النظرية، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين وذلك بطريقين إما بإرشادهم إلى ما ينبغي أو بمنعهم عما لا ينبغي، ثم الوصف بالصلاح غاية المدح ويدل عليه القرآن والعقل.
فإن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي فهو فساد سواء كان في العقائد أو في الأعمال، فإذا حصل كل ما ينبغي فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء في الفعلين. لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، فإن جهّال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان. قال تعالى: وَما يَفْعَلُوا أي عبد الله بن سلام وأصحابه من خير مما ذكر ويقال: من إحسان إلى محمد وأصحابه. فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن ينسى ثوابه بل يثابوا.
وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب لجميع المؤمنين الذين من جملتهم هؤلاء أي وما

تفعلوا معاشر المؤمنين من خير فلن تمنعوا ثوابه وجزاءه بل تجاوزوا عليه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) وهذا بشارة لهم بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده تعالى إلا أهل التقوى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تدفع عنهم أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذابه شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) إنما خصّ الله تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال، وأنفع الحيوانات هو الولد. ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي الكفار في هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أي برد مهلك أو حر محرق أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي فأَهْلَكَتْهُ.
والمعنى مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للزرع، أو مثل الكافر الذي أنفق أمواله في الخيرات- نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل- وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيرا كثيرا، فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعا وتوقّع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح، فأحرقته، فلا يبقى إلا الحزن والأسف، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات. أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه من الخيرات وهو من المعاصي- مثل إنفاق الأموال في إيذاء رسول الله، وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم- فهو أشد تأثيرا في إبطال آثار أعمال البر وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ حيث لم يقبل نفقاتهم ولكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) حيث أتوا بالنفقات مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت هذه الآية في شأن رجال من المؤمنين يشاورون اليهود في أمورهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنا منهم أنهم ينصحون لهم في أسباب المعاش، فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه- كما قاله ابن عباس- أو في رجال من المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال فالله تعالى منعهم عن ذلك- كما قاله مجاهد- وقال الله تعالى: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي خاصة تباطنون في الأمور مِنْ دُونِكُمْ أي من غير أهل ملتكم من الكفار والمنافقين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفسادكم وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر أي فإن الكفار لا يقصرون لكم في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه أحبوا بقلوبهم إلقاءكم في أشد أنواع الضرر. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي قد ظهرت البغضاء في كلامهم بالطعن وغيره مما يدل على نفاقهم وبأنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من الحقد أَكْبَرُ مما يظهر على ألسنتهم. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي علامة الحسد والعداوة إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) الفرق بين ما يستحقه العدو والولي ها أَنْتُمْ أُولاءِ أي أنبهكم أنتم يا معشر المؤمنين المخطئين في موالاتهم تُحِبُّونَهُمْ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة، وبسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان