آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

الْإِيمَانِ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْمُبَاغَتَةِ وَالتَّعَجُّبِ، وَتَقَدَّمَ التَّرْكُ الْمَجَازِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ أَوَائِلَ الْبَقَرَةِ [١٧].
وأَنْ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الَّذِي هُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ حَالٌ، أَي لَا يحسبوا أَنَّهُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ إِذَا آمَنُوا.
وَالْفِتَنُ وَالْفُتُونُ: فَسَادُ حَالِ النَّاسِ بِالْعُدْوَانِ وَالْأَذَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِينَ.
وَالِاسْمُ: الْفِتْنَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَبِنَاءُ فِعْلَيْ يُتْرَكُوا... ويُفْتَنُونَ لِلْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ أَنَّ الْفَاعِلَ قَوْمٌ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَنْ يُتْرَكُوا خَالِينَ عَنْ فُتُونِ الْكَافِرِينَ إِيَّاهُمْ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ قُبَيْلَ نُزُولِهَا، وَلِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دَأْبِ النَّاسِ أَنْ يُنَاصِبُوا الْعَدَاءَ مَنْ خَالَفَهُمْ
فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَمَنْ تَرَفَّعَ عَنْ رَذَائِلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَحَسِبَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ دُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ. وَمَنْ فَسَّرُوا الْفُتُونَ هُنَا بِمَا شَمِلَ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ مِثْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْ مَهْيَعِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَنَاكَدُوا مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٣].
وَإِنَّمَا لَمْ نُقَدِّرْ فَاعِلَ يُتْرَكُوا ويُفْتَنُونَ أَنَّهُ الله تَعَالَى تحاشا مَعَ التَّشَابُهِ مَعَ وُجُودِ مَنْدُوحَةٍ عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مَرَاتِبُ أَعْظَمُهَا التَّعْذِيبُ كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسر وأبويه.
[٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
انْتِقَالٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْفُتُونِ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي سَالِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَعْظَمُوا مَا نَالَهُمْ

صفحة رقم 203

مِنَ الْفِتْنَةِ من الْمُشْركين واستبطأوا النَّصْرَ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَذُهُولِهِمْ عَنْ سُنَّةِ الْكَوْنِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُ الدَّهْمَاءَ فِي ضَلَالِهِمْ وَيَتَجَافَى عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَرَذَالَتِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ تَلْحَقَهُ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّنَنُ مِنْ آثَارِ مَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ عُقُولَ غَالِبِ الْبَشَرِ وَتَفْكِيرَهُمْ غَيْرَ الْمَعْصُومِ بِالدَّلَائِلِ وَكَانَ حَاصِلًا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كُلِّهَا أَسْنَدَ فُتُونَ تِلْكَ الْأُمَمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهُ خَالِقُ أَسْبَابِهِ كَمَا خَلَقَ أَسْبَابَ الْعِصْمَةِ مِنْهُ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْعِصْمَةِ مِنْ مِثْلِهِ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ تِلْكَ الْفِتَنِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا قَادِرٌ عَلَى صَرْفِهَا بِأَسْبَابٍ تُضَادُّهَا. وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ دُعَاءُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٨٨] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَخْلُقَ ضِدَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي غَرَّتْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَغَشِيَتْ عَلَى قَلْبِهِ بِالضَّلَالِ.
وَالْمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِمَا لَحِقَ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ كَمَا لَقِيَ صَالِحُو النَّصَارَى مِنْ مُشْرِكِي الرُّومَانِ فِي عُصُورِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ قَصَّ الْقُرْآنُ بَعْضَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ.
وَحُكْمُهَا سَارٍ فِي حَالِ كُلِّ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْحَقِّ بَيْنَ قَوْمٍ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ
نُكْرَانَ الْحَقِّ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ.
وَالْوَاوُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: ٢]، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢] فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ قَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا. فَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَ تِلْكَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً. وَإِسْنَادُ فِعْلِ فَتَنَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذِهِ الْفُتُونِ بِأَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢]، أَيْ يُفْتَنُونَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا مِنْهُمْ وَالْكَاذِبِينَ. وَالْمُفَرَّعُ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ الْحَاصِلُ فِي

صفحة رقم 204

الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَوْكِيدُ فِعْلِ الْعِلْمِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الَّتِي لَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا. وَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْمَعْلُومِ شَبِيهٌ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِصِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ هُنَا ثَبَاتُ الشَّيْءِ وَرُسُوخُهُ، وَبِالْكَذِبِ ارْتِفَاعُهُ وَتَزَلْزُلُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قَالُوا آمَنَّا [العنكبوت: ٢] لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتَقَدَ عَقِيدَةَ الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، فَإِذَا لَحِقَهُمُ الْفُتُونُ مِنْ أَجْلِ دُخُولِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتْرُكِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فَقَدْ تَبَيَّنَ رُسُوخُ إِيمَانِهِ وَرِبَاطَةُ عَزْمِهِ فَكَانَ إِيمَانُهُ حَقًّا وَصِدْقًا، وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ خَوْفَ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اسْتَبَانَ مِنْ حَالِهِ عَدَمُ رُسُوخِ إِيمَانِهِ وَتَزَلْزُلُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كَاذِبٍ وَقَوْلِ الْأَعْشَى فِي ضِدِّهِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ:

جُمَالِيَّةٍ تَغْتَلِي بِالرِّدَا فِ إِذَا كَذَّبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [٢].
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ صَادِقًا عِنْدَ الْفُتُونِ وَمَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ كَاذِبًا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَقَرِّرًا فِي الْأَزَلِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْفُتُونُ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ فِعْلِ فَلَيَعْلَمَنَّ بِمَعْنَى: فَلَيَعْلَمَنَّ بِكَذِبِ إِيمَانِهِمْ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِحُصُولِ أَمْرٍ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَلَا مَانِعَ
مِنْ إِثْبَاتِ تَعَلُّقَيْنِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ، وَالْآخَرُ تَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ. وَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفٍ حَادِثٍ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الصِّفَةِ تَحَقُّقُ مُقْتَضَاهَا فِي الْخَارِجِ لَا فِي ذَاتِ مَوْصُوفِهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، وَقَوْلِهِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٤٠].
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْعِلْمَ هُنَا مُكَنًّى بِهِ عَنْ وَعْدِ الصَّادِقِينَ وَوَعِيدِ الْكَاذِبِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ سَبَبٌ لِلْجَزَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ فَكَانَتِ الْكِنَايَةُ مَقْصُودَةً وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَهَمُّ.

صفحة رقم 205
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية