آيات من القرآن الكريم

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

بالمال والجاه، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة، واستحقاقي لذلك، أي لأنه أقرأ بني إسرائيل للتوراة كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي اه-.
وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلّم قارون ثلث العلم، ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى
أضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، والنحاس فيجعله ذهبا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي أعلم قارون ما ادعاه، ولم يعلم أن الله قد أهلك من هو أقوى منه، وأغنى، وأكثر جماعة حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته؟! وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)، أي لا يسأل الله عن صفة ذنوب المجرمين وعددها إذا أراد أن يعاقبهم لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوم السبت متزينا مع أتباعه كانوا أربعة آلاف على زيه، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج، وكانت بغلته شهباء سرجها من ذهب وكان على سرجها الأرجوان- بضم الهمزة والجيم، وهو قطيفة حمراء- وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، ومعهم ألوان السلاح.
وقال ابن زيد: خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا من المؤمنين جريا على طريقه الجبلة البشرية من الرغبة في السعة يا للتنبيه لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من هذه الأموال وهذه الزينة إِنَّهُ أي قارون لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩). أي لذو بخت وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الدنيا والآخرة للراغبين في الدنيا: وَيْلَكُمْ أي ضيق الله عليكم الدنيا. وهذا زجر عن ذلك التمني ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً من هذه النعم، لأن الثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار، ودائمة، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاثة.
وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) أي ولا يعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح إلا الصابرون على أمر الله، والمرازي. أو ولا يعطى الجنة التي هي الثواب إلا الصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة.
فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ.
روي أن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وكذلك سائر الأشياء، ثم رجع إلى بيته فحسبه، فوجده شيئا كثيرا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فمرنا بما شئت. قال: نبرطل فلانة البغي كي تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك رفضه بنو إسرائيل، فدعوها، فجعل قارون لها طشتا من ذهب مملوءا ذهبا، فلما كان يوم عيد قام

صفحة رقم 207

موسى خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن كان محصنا رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا قال: إن بني إسرائيل يقولون: إنك فجرت بفلانة قال موسى: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة ألا تصدقين فتداركها الله بالتوفيق، فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل عنه، فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويقول له: قارون بالله والرحم، وموسى عليه السلام لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال:
يا أرض خذيهم. فانطبقت الأرض عليهم، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. فَما كانَ لَهُ أي لقارون مِنْ فِئَةٍ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره بدفع العذاب عنه وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) أي من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله تعالى، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ أي وصار الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب، يَقُولُونَ متنبهين على خطأهم في تمنيهم لمّا شاهدوا الخسف وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي أعجب أنا، لأن الله يوسع المال على من يشاء من عباده وهو مكر منه تعالى- كما كان لقارون- ويقتر على من يشاء وهو نظر منه تعالى فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف تندموا على تمنيهم حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله، ولا تضييقه لهوانه عنده فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ و «وي» اسم فعل بمعنى:
أعجب أنا، والكاف للتعليل.
وقال أبو الحسن و «وي» اسم فعل، والكاف حرف خطاب و «أن» على إضمار اللام.
وقيل: «وي» اسم فعل، و «كأن» للتحقيق أي أعجب أنا وقد علمت أن كلا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى، وليس البسط للكرامة والقبض للهوان لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالإيمان والرحمة لَخَسَفَ بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢). وقيل «وي» كلمة للزجر، والكاف حرف خطاب، و «أن» معمولة لمحذوف أي انزجر عن تمنيك.
واعلم أنه لا ينجو المكذبون برسول الله من عذاب الله تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي نعطيها لمن لا يريدون غلبة وتكبرا وَلا فَساداً أي

صفحة رقم 208

ظلما على العباد كدأب فرعون وقارون، وَالْعاقِبَةُ الحميدة- وهي الجنة- لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) أي الذين يتقون ما لا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة متصفا بالحسنة، المقبولة، الأصلية، المعمولة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي فله بمقابلتها ثواب خير منها ذاتا، وصفة، وقدرا بالمضاعفة. ومثل المعمولة ما في حكمها كما لو تصدق عن غيره، فخرج بالمعمولة ما لو همّ بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنها يجازى عليها من غير تضعيف، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف له، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهي ما يذم فاعلها شرعا فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) أي الإجزاء مثل ما كانوا يعملون إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن والعمل بما فيه من الأحكام لرادك إلى مكة.
فإنه صلّى الله عليه وسلّم خرج من الغار ليلا وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل وقال له:
أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم». فقال جبريل: إن الله تعالى يقول:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي مكة غالبا عليهم قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وما يستحقونه من العقاب والإذلال في بلدهم يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك نفسه والمشركين، وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وما كنت قبل مجيء الرسالة إليك ترجو إنزال القرآن عليك، وكونك نبيا فإنزاله عليك ليس عن ميعاد وكونك نبيا ليس عن تطلب سابق منك ولكن أنزل إليك القرآن وتجعل نبيا لأجل الترحم من ربك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) أي معينا لهم بالإجابة إلى طلبتهم وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي لا تركن إلى أقوال الكافرين فيصدوك عن اتباع آيات الله بعد وقت إنزالها عليك وإيجاب العمل بها وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادع الناس إلى دين ربك وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) بإعانتهم في الأمور، لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا
في أمورك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ أي معدوم في حد ذاته فإن وجوده كلا وجود، لأن وجوده ليس ذاتيا إِلَّا وَجْهَهُ أي ذاته تعالى.
وقيل: معنى كونه هالكا: كونه قابلا للهلاك والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله:

ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي ونار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
لَهُ الْحُكْمُ النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ أي إلى جزائه بالعدل عند البعث تُرْجَعُونَ (٨٨).

صفحة رقم 209
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية