
الشكر بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل.
٢- تتكرر مناداة الآلهة المزعومة من أصنام وغيرها أمام الله تعالى يوم القيامة، ففي المرة الأولى لا يستجيبون، فتظهر حيرة أتباعهم وعابديهم، وفي المرة الأخرى يسكتون، وذلك كله توبيخ وتقريع للمشركين وزيادة خزي وتحقير أمام الخلائق قاطبة.
٣- يزداد غم المشركين وتتضاعف حسرتهم وكمدهم وألمهم حين يشهد عليهم بأعمالهم نبيهم المبعوث إليهم في الدنيا لدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته، ويطلب منهم إحضار حجتهم على صحة أو صدق ادعائهم، ولكنهم يعجزون، ويدركون إدراكا جازما أن الأنبياء صادقون فيما جاؤوا به، وأن الله وحده هو الإله الحق، ويذهب عنهم ويبطل كل ما كانوا يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة أخرى تعبد.
قصة قارون
- ١- بغيه على قوم موسى واغتراره بماله
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)

الإعراب:
ما إِنَّ مَفاتِحَهُ ما اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب ب آتَيْناهُ وصلته:
إِنَّ وما عملت فيه. وكسرت إِنَّ لأنها متى وقعت في موضع يصلح اسما وفعلا، كانت مكسورة، والاسم الموصول يدخل على الجملة الاسمية والجملة الفعلية. وأُولِي واحدها ذو من غير لفظها.
عَلى عِلْمٍ عِنْدِي في موضع الحال.
البلاغة:
لا تَفْرَحْ الْفَرِحِينَ وكذا الْفَسادَ الْمُفْسِدِينَ بين كل جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
قارُونَ هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام. مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه لأن موسى هو ابن عمران بن قاهث، وكان أيضا ابن خالته، وممن آمن به.
فَبَغى عَلَيْهِمْ تكبر عليهم وتجبر بكثرة المال وظلمهم وطلب أن يكونوا تحت أمره. الْكُنُوزِ جمع كنز: وهو المال المدخر، يقال: كنز المال: جمعه وادخره. مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ تثقل خزائنه أي صناديقه، جمع مفتح، أو مقاليده أي مفاتيحه جمع مفتح وهو ما يفتح به. بِالْعُصْبَةِ الجماعة الكثيرة. أُولِي الْقُوَّةِ أصحاب الشدة. قَوْمُهُ المؤمنون من بني إسرائيل. لا تَفْرَحْ بكثرة المال، أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا دون الآخرة.
وَابْتَغِ اطلب. فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال. الدَّارَ الْآخِرَةَ أي ثوابها، بأن تنفقه في طاعة الله. وَلا تَنْسَ تترك ترك المنسي. نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي حظك منها بأن تأخذ منها ما يكفيك أو أن تعمل فيها للآخرة. وَأَحْسِنْ للناس بالصدقة. وَلا تَبْغِ تطلب. الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بأمر يكون علة للظلم والبغي أي بعمل المعاصي. لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يعاقبهم.

أُوتِيتُهُ أي المال. عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي معرفة مني ومهارة في اكتساب المال، قيل:
إنه علم التجارة. مِنَ الْقُرُونِ الأمم. وَأَكْثَرُ جَمْعاً للمال. وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام، فإنه تعالى مطلع عليها، معاقبهم عليها لا محالة.
المناسبة:
بعد تقريع المشركين وتوبيخهم، ذكر الله تعالى قصة قارون لبيان عاقبة الكافرين والمتجبرين في الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف والزلزلة، وهو في الآخرة كالمشركين من أهل النار.
أضواء من التاريخ على قصة قارون:
عرفنا أن قارون هو ابن يصهر بن قاهث جدّ موسى، فهو ابن عمه، وقال ابن عباس: وكان أيضا ابن خالته. وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم، فنافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله.
فهو رجل من بني إسرائيل، آتاه الله مالا كثيرا، حتى إن مفاتيح خزائنه كان تنوء بحملها عصبة من الرجال. نصحه أهل الوعظ والإرشاد من قومه بالبعد عن البطر والتجبر والإفساد في الأرض، وأن يستعمل ماله في مرضاة الله، مع الانتفاع ببعضه في مصالح الدنيا بقدر الكفاية، وألا ينفقه فيما يغضب الله تعالى، حتى لا يتعرض لزوال النعمة، فأبى الامتثال لنصح الناصحين، وقال في ماله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي والظاهر أنه جمعه بما لديه من ذكاء وخبرة في شؤون التجارة، ولكنه غفل عن بطش الله بالمتجبرين المتكبرين من أمثاله في الأمم الغابرة الذين كانوا أشد منه قوة وأكثر جمعا للمال.
وقد استبد به الكبر والخيلاء أن كان يخرج في موكب مهيب وزينة فاخرة باهرة، فافتتن بعض الناس بمظاهره، وتمنوا أن يؤتوا مثله من المال، فقال لهم

أهل العلم والبصر والحكمة: لا تفتتنوا به ولا تطمعوا، فثواب الله خير للمؤمن الذي يعمل الصالحات، فكان عاقبة طغيانه وظلمه وجحوده نعمة الله أن خسف الله به وبداره الأرض، دون أن يجد له نصيرا أو معينا.
التفسير والبيان:
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ أي إن قارون الذي أصبح مضرب المثل والغنى والثروة والظلم والعتو كان من بني إسرائيل، فتجبر وتكبر بكثرة ماله، وتجاوز الحد في ظلمهم، وطلب منهم أن يكونوا تحت إمرته، مع أنه قريبهم:
وظلم ذوي القربى أشد غضاضة | على المرء من وقع الحسام المهنّد |
فنصحه الوعاظ بمواعظ خمس قائلين:
١- إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي قال له جماعة من بني إسرائيل من النصحاء، حينما أظهر التفاخر والتعالي: لا تبطر ولا تفرح بما أنت فيه من المال، فإن الله لا يحب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، ولا يستعدون للآخرة، أي يبغضهم ويعاقبهم، كقوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد ٥٧/ ٢٣].
٢- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي استعمل ما وهبك الله من هذا صفحة رقم 160

المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة.
٣- وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك حظك من لذات الدنيا التي أباحها الله من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والزواج، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك (زوارك) عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. وهذه هي وسطية الإسلام في الحياة، قال ابن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».
٤- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى خلقه كما أحسن الرب إليك، وهذا أمر بالإحسان مطلقا بعد الأمر بالإحسان بالمال، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه، وحسن اللقاء، وحسن السمعة، أي أنه جمع بين الإحسان المادي، والإحسان الأدبي أو الخلقي.
٥- وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تقصد الإفساد في الأرض بالظلم والبغي والإساءة إلى الناس، فإن الله يعاقب المفسدين، ويمنعهم رحمته وعونه وودّه.
ولكن قارون أبى النصح فقال:
قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي قال قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: أنا لا أحتاج لما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال، لعلمه بأني أستحقه، ولمعرفتي وخبرتي بكيفية جمعه، فأنا له أهل، كما قال تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الزمر ٣٩/ ٤٩] أي على علم من الله بي، وقال سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: هذا لِي [فصلت ٤١/ ٥٠] أي هذا أستحقه.

فأجابه الله بقوله:
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً، وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي أولم يدر في جملة ما عنده من الدراية والعلم حتى لا يغترّ بكثرة ماله وقوته أنه قد كان من هو أكثر منه مالا، وما كان ذلك منا عن محبة له، أو أنه أهل له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم، ولا يسأل المجرمون عن كثرة ذنوبهم، أي إذا عاقب الله تعالى المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن أنواع ذنوبهم ومقدارها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فلا حاجة به إلى السؤال. فالمراد بذلك سؤال الاستفسار والاستعلام، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وسؤال الاستعتاب، كما قال تعالى: ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل ١٦/ ٨٤]. هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات ٧٧/ ٢٥- ٢٦].
ونظير الآية: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن ٥٥/ ٣٩].
ولا يتنافى هذا مع سؤالهم في وقت آخر سؤال توبيخ وإهانة، كما في قوله سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر ١٥/ ٩٢- ٩٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- البغي مرتعه وخيم، والظلم مؤذن بخراب العمران والديار.
٢- إن كثرة المال محنة وبلاء، وسبب للطغيان والفساد.
٣- الجاهل الذي لا علم لديه، أو علمه ناقص هو الذي يغترّ بماله، ويبطر

عند النعمة، فإن الله تعالى يعاقب الأشرين البطرين الذين لا يشكرون نعمة الله تعالى عليهم.
٤- إن أصول الحضارة الإسلامية أربعة: العمل الصالح ابتغاء ثواب الآخرة، وعمارة الدنيا بإتقان دون أن تستولي على مشاعر الإنسان، والإحسان إلى الناس إحسانا ماديا ومعنويا أو خلقيا، وقمع الفساد والعصيان والخراب.
فمن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في التجبر والبغي، وألا يضيع عمره في غير العمل الصالح في دنياه إذ الآخرة هي التي يعمل لها، فنصيب الإنسان: عمره وعمله الصالح فيها، بأن يطيع الله ويعبده كما أنعم عليه، وألا يعمل بالمعاصي والإفساد، فإن الله يجازي المفسدين.
٥- الله تعالى مصدر الخير والرزق، وما العبد إلا وسيلة، يجب عليه أن يعمل ويكتسب، والله هو الرازق الميسر له أسباب الرزق، المانح له الثراء والمال، فيكون هو المستحق للشكر على تلك النعمة.
فمن الغباء والجهل أن ينسب الإنسان الخير والفضل لنفسه ومواهبه، أو يدعي أنه الحقيق الجدير بما أعطي، أو ينخدع بأن ما أعطيه دليل على محبة الله ورضاه عنه، فقد يكون العطاء فتنة واستدراجا، وليس قرينة الرضا والمودة.
لذا كان اغترار قارون بكثرة ماله، وادعاؤه أنه أهل له عبثا باطلا.
٦- أهلك الله كثيرا من الأمم الخالية الكافرة، وهم أشد قوة من قارون، وأكثر جمعا للمال منه، ولو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم.
٧- لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم سؤال استعلام واستعتاب، فالله عليم بكل شيء، ولا يقبل اعتذارهم ولا عتبهم، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما بينا.