
أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون غليك وعلى بني أبيك غضاضة لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك وأنشد:
لولا الملامة أو حذار مسبة | لوجدتني سمحا بذاك مبينا |
ولقد علمت بأن دين محمد | من خير أديان البرية دينا |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) صفحة رقم 353

الإعراب:
(وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على ما تقدم فهي بمثابة تفريع على قصة أبي طالب، قالوا: إن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي ﷺ فقال له: إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا. وإن شرطية ونتبع فعل الشرط مجزوم وفاعله مستتر تقديره نحن والهدى مفعول به ومعك ظرف متعلق بمحذوف حال ونتخطف جواب الشرط وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن ومن أرضنا متعلقان بنتخطف. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وبه يرد عليهم دعواهم التي لا أساس لها من الصحة بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. ولم حرف نفي وقلب وجزم ونمكن فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وحرما مفعول به وآمنا صفة وجملة يجبى صفة ثانية لحرما ومعنى يجبى اليه يساق ويحمل اليه ويجمع لازدهاره وإليه متعلقان بيجبى وثمرات كل شيء نائب فاعل ورزقا مفعول مطلق لقوله يجبى لأن معنى الجباية والرزق واحد والمراد تساق اليه الميرة وأعربه آخرون مفعولا لأجله وأجازه الزمخشري وفي النفس منه شيء ويجوز أن يكون رزقا مصدرا بمعنى المفعول فينتصب على الحال من الثمرات لتخصصها بالإضافة ومن لدنا صفة لرزقا والواو حالية أو عاطفة ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) يجوز أن يكون كلاما مستأنفا مسوقا لتخويف أهله من سوء مغبة من كانوا في نعمة فغمطوها وقابلوها بالبطر، والبطر بفتحتين النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة، قال في القاموس: «وفعل الكل كفرح وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله» ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ليتساوق الكلام. وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا ومن قرية تمييز كم الخبرية المجرور بمن وقد تقدم تقرير ذلك فجدد به عهدا وجملة بطرت صفة لقرية ومعيشتها منصوب بنزع الخافض على حد قوله:
«واختار موسى قومه سبعين رجلا» أي في معيشتها وهذا أقرب ما قيل فيه وأقله تكلفا وقال الزجاج هو نصب على الظرفية الزمانية أي أيام معيشتها ويجوز تضمين بطرت معنى خسرت فتكون معيشتها مفعولا به واقتصر عليه أبو البقاء. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) فتلك الفاء عاطفة وتلك مبتدأ ومساكنهم خبر وجملة لم تسكن يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون حالا والعامل فيها معنى الاشارة وإلا أداة حصر وقليلا ظرف أي إلا وقتا قليلا فالاستثناء من الظرف أو مفعول مطلق أي إلا سكنى قليلا فالاستثناء من المصدر ولا مرجح لأحد الوجهين، والواو عاطفة أو حالية وكنا كان واسمها ونحن ضمير فصل أو عماد والوارثين خبر كنا وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة.
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) كلام مستأنف مسوق لبيان عادة الله تعالى في عباده، وما نافية وكان ربك كان واسمها ومهلك القرى خبرها وحتى حرف

تعليل وجر ويبعث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى والفاعل مستتر يعود على الله وفي أمها متعلقان بيبعث ورسولا مفعول به وجملة يتلو صفة لرسولا وعليهم متعلقان بيتلو وآياتنا مفعول به والمراد بأمها أعظمها والتعميم هنا خير من تخصيصها بمكة. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها ومهلكي القرى خبرها وإلا أداة حصر والواو حالية وأهلها مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية فالاستثناء من أعم الأحوال أي وما كنا نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) الواو عاطفة أو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل ومن شيء حال مبينة لمن والفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف والحياة مضاف اليه والدنيا صفة وزينتها عطف على متاع والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب خبر ما. (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية وما اسم موصول مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول وخير خبر وأبقى عطف على خير والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية وتعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعل.
البلاغة:
الإسناد المجازي:
في قوله «حرما آمنا» إسناد مجازي لأن المراد أهل الحرم وقد تقدم بحثه كثيرا ومثله «وكم أهلكنا من قرية» المراد أهلها بدليل

قوله فيما بعد «فتلك مساكنهم لم تسكن إلا قليلا» أي لقد زهوا بها حينا من الدهر وغرتهم الأماني، وأبطرتهم النعمة، وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في حلل السعادة، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص، أطلالا باهتة، ورسوما محيلة، تهزأ بهم، وتدل الآخرين على أفن رأيهم وطيش أحلامهم. وقد رمق المتنبي سماء هذه البلاغة العالية في قصيدته الخالدة التي رثى بها أبا شجاع فاتكا فقال بيته المشهور:
تتخلف الآثار عن أصحابها | حينا ويدركها الفناء فتتبع |
الحزن يقلق والتجمل يردع | والدمع بينهما عصيّ طيّع |
يتنازعان دموع عيد مسهّد | هذا يجيء بها وهذا يرجع |
النوم بعد أبي شجاع نافر | والليل معي والكواكب ظلّع |

فلا تنام حزنا عليه والليل من طوله كأنه قد أعيا عن المشي فانقطع والكواكب كأنها ظالعة لا تقدر أن تقطع الفلك فتغرب، كل هذا يصف به ليله بعده من الحزن عليه» وقال الواحدي: وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ٣٥٠ هـ.
ومضى أبو الطيب يقول:
إني لأجبن عن فراق أحبتي | وتحس نفسي بالحمام فأشجع |
ويزيدني غضب الأعادي قسوة | ويلم بي عتب الصديق فأجزع |
تصفو الحياة لجاهل أو غافل | عما مضى منها وما يتوقّع |
ولمن يغالط في الحقائق نفسه | ويسومها طلب المحال فتطمع |
أين الذي الهرمان من بنيانه | ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ |