آيات من القرآن الكريم

أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ

٨- لا يقبل التقليد في العقائد، وإنما لا بدّ من غرس العقيدة بالحجة والبرهان.
٩- نبّه القرآن بتحدي العرب وغيرهم الإتيان بمثله على عجز محاكاته على الدوام، وأنه كتاب موحى به من عند الله تعالى، فهو حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤١- ٤٢].
١٠- تنطق الآيات جملة وتفصيلا بالدلالة على نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم.
إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
المفردات اللغوية:
مِنْ قَبْلِهِ أي قبل القرآن، بدليل قوله الآتي: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ أي صدقنا بأنه كلام الله تعالى. مُسْلِمِينَ منقادين خاضعين لله تعالى. يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بالكتابين: كتابهم والقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم على العمل بهما. وَيَدْرَؤُنَ يدفعون. بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي بالطاعة المعصية،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذرّ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».
يُنْفِقُونَ يتصدقون.
اللَّغْوَ هو الساقط من القول، والمقصود به هنا الشتم والأذى من الكفار. أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرما. سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام متاركة لهم وتوديع أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه.
لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم ولا نريدها، ولا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل، فنعاملكم بالمثل.

صفحة رقم 123

سبب النزول: نزول الآية (٥٢) :
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ: أخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم رفاعة- يعني أباه- إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فآمنوا فأوذوا، فنزلت: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. وأخرج أيضا عن قتادة قال:
كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق، حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، فآمنوا به، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام.
وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ عليهم: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا «١».
وعلى كل حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى الدليل على أن القرآن وحي من عند الله، وعلى صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، أكد ذلك بأن جماعات من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وحده قبل نزول القرآن، أسلموا وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، حين اقتنعوا بصدقه وصحة ما أنزل عليه، فكان غير أهل الكتاب أولى بالإيمان أو الإسلام.
التفسير والبيان:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ أي إن جماعة من علماء أهل الكتاب الأولياء الأصفياء، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا النبي محمدا صلّى الله عليه وسلم، آمنوا بالقرآن، لمطابقته لأصول كتبهم المتقدمة، وبشارة تلك

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٩٣ [.....]

صفحة رقم 124

الكتب بمحمد وتطابق الأوصاف عليه. فقوله: مِنْ قَبْلِهِ أي قبل القرآن.
وهُمْ بِهِ أي بالقرآن أو بمحمد صلّى الله عليه وسلم أو بهما معا يصدّقون.
وللآية نظائر كثيرة منها: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة ٢/ ١٢١]، ومنها: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران ٣/ ١٩٩]، ومنها: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ: سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الإسراء ١٧/ ١٠٧- ١٠٨].
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أي وإذا قريء عليهم القرآن، قالوا: صدقنا به، وآمنا بأنه الكلام الحق الصدق الثقة من ربّنا، وكنا مصدقين بالله مسلمين له أي موحدين، مخلصين لله، مستجيبين له، من قبل نزول هذا القرآن، أو من قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم.
وهذا دليل على قدم إيمانهم، لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدم النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، فمدحهم تعالى بهذا المدح العظيم وقال:
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول وهو كتابهم، ثم بالثاني وهو القرآن لهم ثواب مضاعف مرتين، جزاء صبرهم وثباتهم على الإيمانين، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس، فإنهم لم يأبهوا بإيذاء قومهم.
ونظير الآية: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد ٥٧/ ٢٨]،
وورد في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن

صفحة رقم 125

بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة، فأدّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها».
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتاب، فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا».
وبعد أن مدحهم الله تعالى بالإيمان أولا، أثنى عليهم بالطاعات البدنية في قوله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ثم بالطاعات المالية في قوله:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم باشتغالهم بالطاعات والأفعال والأخلاق الحسنة في قوله: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ فقال:
- وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون السيئة بالحسنة، فلا يقابلون السيء بمثله، ولكن يعفون ويصفحون.
- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من رزق الله الحلال في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم، ويؤدون الزكاة المفروضة، والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات.
- وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي وإذا سمعوا من المشركين أو غيرهم لغو الكلام وهو الساقط من القول من أذى وتعيير وسبّ وشتم وتكذيب، أعرضوا عن أهله، ولم يخالطوهم ولم يعاشروهم، بل كانوا كما قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان ٢٥/ ٧٢].
وقالوا إذا سفه عليهم سفيه، وكلّمهم بما لا يليق: لنا أعمالنا فنحن المسؤولون عنها ثوابا وعقابا، ولكم أعمالكم عليكم تبعاتها، لا نرد عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، أو سلمكم الله مما أنتم فيه، لا نريد اتباع طريق

صفحة رقم 126

الجاهلين ولا نحبها ولا نصاحب أهلها، ونؤثر الكلام الطيب، ولا نقابل الكلام القبيح بمثله. ونظير الآية وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٣] قال الحسن رحمه الله عن كلمة سَلامٌ عَلَيْكُمْ: هذه الكلمة تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين.
روى محمد بن إسحاق في سيرته: أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن.
فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به، وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم.
فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.
ويقال: إن هؤلاء النفر النصارى من أهل نجران «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٩٤، وهو مروي عن عروة بن الزبير.

صفحة رقم 127

١- إذا كان الإيمان بالله صحيحا منسجما مع الوحي الثابت الصحيح، سهل التقاء رافدي الإيمان، وتيسر الدمج بين الإيمانين، إن تجرد الإنسان عن العصبية والهوى، والمصلحة الذاتية، والنفع المادي. وهذا ما تحقق لجماعة من أهل الكتاب من بني إسرائيل، آمنوا بالله ربّا واحدا لا شريك له قبل القرآن بمقتضى كتابهم السماوي، ثم آمنوا بالقرآن، لمطابقته مع أصل ذلك الكتاب المتقدم، وهؤلاء كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، ومن أسلم من علماء النصارى، وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفر أقبلوا من الشام، وكانوا أئمة النصارى، منهم بحيرا الراهب وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع. وقيل: أكثر من ذلك.
٢- هؤلاء المؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب يضاعف لهم الثواب أو الأجر مرتين: مرة لإيمانهم بكتابهم، ومرة لإيمانهم بالقرآن بسبب صبرهم على الأذى الذي يلقونه من الكفار.
٣- المؤمن الكامل الإيمان شأنه الاشتغال بمرضاة الله تعالى، فيبادر إلى الطاعات البدنية والمالية، ويتحلى بالخلق الفاضل، وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب بأنهم يقابلون السيئة بالحسنة، أي بالاحتمال والعفو والصفح والكلام الحسن، وهذا من مكارم الأخلاق، وينفقون من أموالهم في الطاعات والقربات، فيحسنون إلى البائسين والمعوزين، وفي ذلك حضّ على الصدقات، ويعرضون عن لغو الكلام، فلا يتكلمون بالكلام القبيح، وإنما ينطقون دائما بالكلام الطيب، فإذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم، أعرضوا عنه، أي لم يشتغلوا به،
قال صلّى الله عليه وسلم لمعاذ في حديث أبي ذر المتقدم والمروي أيضا عن معاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»
ومن الخلق الحسن: دفع المكروه والأذى، والصبر على الجفا، بالإعراض عنه ولين

صفحة رقم 128
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية