آيات من القرآن الكريم

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ

ما تخفي صدورهم وما يظهرون من الأمور، فيحبط مشاريعهم، كما أنه تعالى يعلم جميع ما أخفى عن خلقه وغيّبه عنهم، وهذا عام بعد خاص، وقد أثبت تعالى في اللوح المحفوظ ما أراد، ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته، فكيف يخفى عليه ما يسرّ هؤلاء وما يعلنونه؟! وإذا كان الله عليما بكل نشاطاتهم المشبوهة وتحركاتهم المريبة، فيستحيل وقوع ما يريدون من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم أو النيل من رسالته، أو تحقيق الظفر على المسلمين.
إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
البلاغة:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ: في هذا الفعل المضارع استعارة تبعية، استعار ما يتكلم به الإنسان الناطق إلى القرآن، لتضمنه نبأ الأولين، فكان كالإنسان الذي يقصّ على الناس الأخبار.
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعيل.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ بِهادِي الْعُمْيِ استعارة تمثيلية، فقد عبر بالموتى والصم والعمي تمثيلا لأحوال الكفار في عدم انتفاعهم بالإيمان بأنهم كالموتى والصم والعمي.

صفحة رقم 27

المفردات اللغوية:
يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ الموجودين في زمان نبينا أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يخبرهم بأكثر نواحي الاختلاف كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح لَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ من العذاب وخص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به يَقْضِي بَيْنَهُمْ يفصل بين بني إسرائيل كغيرهم يوم القيامة بِحُكْمِهِ بما هو حكمه الذي هو الحق والعدل وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب، فلا يرد قضاؤه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضي فيه، فلا معقب لحكمه.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، ولا تبال بمعاداتهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الدين البيّن، وصاحب الحق جدير بالثقة بنصر الله وحفظه، فإنه سينصرك على الكفار إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ تعليل آخر للأمر بالتوكل، من حيث إنه يقطع الأمل بمتابعتهم ومعاضدتهم، فضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي، لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم، ولا برؤية ما يرشدهم إلى الإيمان مُدْبِرِينَ راجعين فارّين هاربين لأن إسماعهم في هذه الحال أبعد.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ لأن الهداية لا تحصل إلا بالصبر إِنْ تُسْمِعُ أي ما يجدي إسماعك سماع فهم وقبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يصدق بالقرآن فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون بتوحيد الله.
المناسبة:
بعد أن أتمّ الله تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد بالأدلة الكونية، الحسية والعقلية، أعقب ذلك بإثبات النبوة بأدلة أعظمها القرآن الكريم المشتمل على المعجزات، وإذا كان معجزا دل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يدعيه.
التفسير والبيان:
إن الكتاب الذي أورد الأدلة على إثبات صفات الكمال لله تعالى، وإثبات البعث لإقامة العدل بين الخلائق بالثواب والعقاب، وهما أصلان للدين، هو هذا القرآن المتضمن وجوه الإعجاز التالية:
١- الإخبار عن قصص الأنبياء المتقدمين: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا القرآن العزيز يخبر بني

صفحة رقم 28

إسرائيل، وهم حملة التوراة والإنجيل، بالحق في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها، كاختلافهم في عيسى عليه السلام، فاليهود افتروا عليه، والنصارى غلوا في شأنه، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل: أنه عبد من عباد الله، ونبي من أنبيائه ورسله الكرام. وهذه الحقيقة وغيرها من القصص لا تعرف إلا بالوحي الإلهي من عند الله تعالى لأن محمد صلّى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن كان أميا لا يقرأ لا يكتب، ولم يتتلمذ على أحد من العلماء للتعلم ومعرفة شؤون الثقافة، ولأن هذه القصص المذكورة في القرآن موافقة لما في التوراة والإنجيل.
٢- إثبات التوحيد والبعث والنبوة وأحكام التشريع بدلائل عقلية:
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن هذا القرآن لهاد للمؤمنين إلى طريق الرشاد، ورحمة لهم في الأحكام التشريعية المتعلقة بالعقيدة، كالتوحيد والحشر والنبوة وصفات الله الحسنى، والمتعلقة بالأحكام العملية الملائمة لحاجات البشر وتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
وهو أيضا هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه غاية الفصاحة والبلاغة حتى عجزت البشر عن معارضته، فدل على إعجازه، وخروجه عن طاقتهم، وأنه وحي منزل من إله حكيم حميد قدير. وخص المؤمنين في الآية لأنهم المنتفعون به.
وبعد بيان خصائص إعجاز القرآن الدالة على صدق الرسالة النبوية أتبعه بذكر أمرين:
الأول- إقامة الدليل على عدل الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي إن ربك الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقضي بين المصيب والمخطئ منهم بحكمه العادل، وهو القوي القادر على الانتقام من المبطل منهم، ومكافأة المحسن منهم، فلا يرد قضاؤه، العليم بأفعال عباده وأقوالهم، فيقضي بالصواب المطابق للواقع لأنه العليم بمن يقضي له وبمن يقضي عليه.

صفحة رقم 29

ومعنى يَقْضِي.. بِحُكْمِهِ أي يقضي يوم القيامة بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما، أو أراد أنه يقضي بحكمته.
الثاني- أمر النبي بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي ثق بالله واعتمد عليه وفوض جميع أمورك إليه، وبلّغ رسالة ربك، ولا تلتفت إلى أعداء الله، فإنك أنت على الحق الواضح، وإن خالفك فيه من خالفك من أهل الشقاء. وهذه هي العلة الأولى للتوكل على الله، ثم علل ذلك بعلة أخرى فقال:
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي إنك لا تستطيع أن تسمعهم شيئا ينفعهم، فهم حين توليهم مدبرين معرضين عنك كالموتى لا يتأثرون بما يتلى عليهم ولا يفهمونه، وكالصم الذين لا أمل في سماعهم فلا يسمعون بحال، وكالعمي الذين لا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء أصلا لأن على قلوبهم غشاوة، وفي آذانهم وقر الكفر، وفي نفوسهم استعلاء واستكبارا عن الرضوخ للحق. وفي هذه العلة الثانية قطع طمع النبي عن الكفار، فيقوى قلبه على إظهار مخالفة أعداء الله، بأن بيّن له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمي، فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، ولأن الإنسان ما دام يطمع في أن يأخذ من أحد شيئا، فإنه لا يجرأ على مخالفته.
وهذا سبب قوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي.
ومعنى قوله: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد وأدبر عن الداعي كان أبعد عن إدراك صوته.
والخلاصة: إنه تعالى أمر رسوله بالتوكل عليه والإعراض عما سواه لأنه على الحق المبين، وغيره على الباطل، ولأنه لا أمل ولا مطمع في مساندة المشركين، ولا في استجابتهم لدعوة الحق.

صفحة رقم 30

والمراد من نفي الإسماع للموتى الإسماع الذي يمكن أن يعقبه إجابة وتفاعل وتفاهم، فلا يعارضه ثبوت السماع من جانبهم دون أن يتمكنوا من الرد أو إجابة من يكلمهم، كما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وأنه صلّى الله عليه وسلم سلّم على قبور أهل بدر، وكما
ثبت في صحيح البخاري ومسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب (بئر) بدر، فقيل له: يا رسول الله، إنما تكلّم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».
ثم أكد الله تعالى ما سبق فقال:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي وما أنت أيها الرسول بمستطيع أن تهدي العمي عن ضلالتهم، أي تردهم عن الضلال بالهدى لأن على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما أتيت به نظرا مؤديا إلى الحق، وما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي يصدقون بها، فهم مسلمون مخلصون التوحيد لله، خاضعون لله، ولا يستجيب لك إلا من هو مبصر القلب، يستخدم سمعه وبصره في إدراك الأمور على وجهها الصحيح، مستعد لقبول الحق، فهذا هو المسلم الذي أسلم وجهه لله، يعني جعله سالما لله تعالى خالصا له.
فقه الحياة أو الأحكام:
يثبت الله تعالى بهذه الآيات صدق النبوة وصحة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك بالقرآن الذي أنزله على قلب نبيه، مشتملا على وجوه عديدة من الإعجاز.
منها: أنه يبين لبني إسرائيل الموجودين حال نزوله ما اختلفوا فيه، لو أخذوا به، وذلك ما حرّفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.

صفحة رقم 31

ومنها: أن القرآن هاد من الضلالة إلى الحق والاستقامة والرشاد، ورحمة لمن صدّق به بما اشتمل عليه من الأدلة العقلية على التوحيد والبعث والنبوة وشرح صفات الله تعالى ونعوت جلاله، وبما انطوى عليه نظمه من سمو الفصاحة والبلاغة، حتى عجز البشر عن معارضته، مما يدل على أنه كلام الله المعجز الدال على صدق الرسالة النبوية.
ثم ذكر الله تعالى دليل عدله، فهو سبحانه يقضي بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وهو العزيز أي المنيع الغالب الذي لا يردّ أمره، العليم الذي لا يخفى عليه شيء.
ثم أمر الله تعالى نبيه بالتوكل على الله، أي تفويض أمره إليه واعتماده عليه، فإنه ناصره، لأنه على الحق المبين، أي الظاهر، ولأن هؤلاء الكفار أشبه بالموتى لتركهم التدبر، فلا حسّ لهم ولا عقل، وبمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون، وكالعميان الذين لا يميزون طريقهم، فهم تائهون حائرون، كما قال سبحانه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة ٢/ ١٧١].
ثم ذكر الله تعالى قاعدة عامة في مسيرة الدعوة للنبي صلّى الله عليه وسلم بقوله:
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وما تسمع إلا المستعد لقبول الحق، المهيأ للإيمان بآيات الله، المخلوق للسعادة، فهم مخلصون في التوحيد. أما الكافر المعاند المعرض عن آيات ربه فلا أمل في إيمانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٨].

صفحة رقم 32
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية