آيات من القرآن الكريم

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٨]

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
لَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ بِطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ، وَذِكْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا يَقْتَضِي طَعْنَهُمْ فِيهِ بِأَنَّهُ لِمُخَالَفَةٍ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً فَهُمْ مُوقِنُونَ بِمَا فِيهِ، تَمَخَّضَ الْكَلَامُ عَنْ خُلَاصَةٍ هِيَ افْتِرَاقُ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ طَاعِنٍ، وَفَرِيقٍ مُوقِنٍ، فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ حُدُوثَ تَدَافُعٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهُوَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ سُؤَالًا عَنْ مَدَى هَذَا التَّدَافُعِ، وَالتَّخَالُفِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَمَتَى يَنْكَشِفُ الْحَقُّ، فَجَاءَ قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْتَضِي مُخْتَلِفِينَ. وَأَنَّ كَلِمَةَ (بَيْنَ) تَقْتَضِي مُتَعَدِّدًا، فَأَفَادَ أَنَّ اللَّهَ يَقْضِي بَين الْمُؤمنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالطَّاعِنِينَ فِيهِ قَضَاءً يُبَيِّنُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِبْطَائِهِمُ النَّصْرَ فَإِنَّ النَّبِيءَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ فَالْقَضَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَضَاء لَهُ بادىء ذِي بَدْءٍ.
وَفِيهِ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى جَنَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْنَادُ الْقَضَاءِ إِلَى اللَّهِ فِي شَأْنِهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبٌّ لَهُ إِيمَاءٌ بِأَنَّ الْقَضَاءَ سَيَكُونُ مُرْضِيًا لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فَجُعِلَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَقَامِ الْمُبَلِّغِ وَجُعِلَ الْقَضَاءُ بَيْنَ أُمَّتِهِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَتَعْجِيلٌ لِمَسَرَّةِ الرَّسُولِ بِهَذَا الْإِيمَاء.
وَإِذا قَدْ أُسْنِدَ الْقَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ غَيْرَ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ وَذَلِكَ يلجيء: إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ بِمَا يُخَالِفُ مَعْنَى إِسْنَادِ الْقَضَاءِ إِذَا اعْتبر اللفظان مترادين لَفْظًا وَمَعْنًى، فَيَكُونُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقْصُودًا بِهِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ الْمُضَافُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُلَّ يَعْلَمُونَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْعَدْلُ وَلِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ رَبَّكَ. يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْمَعْرُوفِ الْمُشْتَهَرِ اللَّائِقِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ وَاطِّرَادِ عَدْلِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الْأَنْبِيَاء: ٧٩] وَقَالَ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: ١٢] وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى حَاكِمًا وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا نَبِيئًا فَيَكُونُ

صفحة رقم 32
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية