
قوله عز وجل:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
روي أن بلقيس قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بِهَدِيَّةٍ أعطيه فيها نفائس الأموال وأغرب عليه بأمور المملكة، فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال فعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين فينبغي أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بِهَدِيَّةٍ عظيمة أكثر بعض الناس في تفصيلها فرأيت اختصار ذلك لعدم صحته، واختبرت علمه فيما روي بأن بعثت إليه قدحا فقالت املأه لي ماء ليس من الأرض ولا من السماء، وبعثت إليه درة فيها ثقب محلزق وقالت يدخل سلكها دون أن يقربها إنس ولا جان، وبعثت أخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه غير الإنس والجن، فملأ سليمان القدح من عرق الخيل، وأدخلت السلك دودة. وثقبت الدرة أرضة ماء، وراجع سليمان مع رد الهدية بما في الآية وعبر عن «المرسلين» ب جاءَ وبقوله ارْجِعْ لما أراد به الرسول الذي يقع على الجمع والإفراد والتأنيث والتذكير، وقرأ ابن مسعود «فلما جاؤوا سليمان» وقرأ «ارجعوا»، ووعيد سليمان لهم مقترن بدوامهم على كفرهم، وذكر مجاهد أنها بعثت في هديتها بعدد كثير من العبيد بين غلام وجارية وجعلت زيهم واحدا وجربته في التفريق بينهم.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بتجربة في مثل هذا الأمر الخطير، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أتمدونني» بنونين وياء في الوصل، وقرأ ابن عامر وعاصم والكسائي «أتمدونن» بغير ياء في وقف ووصل، وقرأ جمزة «أتمدونّي» بشد النون وإثبات الياء، وقرأ عاصم «فما آتان الله» بكسر النون دون ياء، وقرأ فرقة «آتاني» بياء ساكنة، وقرأ أبو عمرو ونافع «آتاني» بياء مفتوحة، ثم توعدهم بالجنود والغلبة والإخراج أذلاء والمعنى إن لم يسلموا، وقرأ عبد الله «لا قيل لهم بهم» على جمع ضمير الجنود. ولا قِبَلَ معناه لا طاقة ولا مقاومة.
قوله عز وجل:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
القائل سليمان عليه السلام والْمَلَؤُا المنادى جمعه من الإنس والجن، واختلف المتأولون في

غرضه في استدعاء «عرشها» فقال قتادة ذكر له بعظم وجودة فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم، و «الإسلام» على هذا التأويل الدين، وهو قول ابن جريج، وقال ابن زيد استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله وليغرب عليها، ومُسْلِمِينَ في هذا التأويل بمعنى مستسلمين وهو قول ابن عباس وذكره صلة في العبارة لا تأثير لاستسلامهم في غرض سليمان، ويحتمل أن يكون بمعنى الإسلام، وظاهر هذه الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها، وقد بعث الهدهد بالكتاب وعلى هذا جمهور المفسرين، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال هذه المقالة هي ابتداء النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال له وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: ٢٣] قال سليمان أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ثم وقع في ترتيب القصص تقديم وتأخير.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصح وروي أن عرشها كان من ذهب وفضة مرصعا بالياقوت والجوهر وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق، وقرأ الجمهور «قال عفريت»، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي «قال عفرية»، ورويت عن أبي بكر الصديق، وقرأت فرقة «قال عفر» بكسر العين، وكل ذلك لغات فيه وهو من الشياطين القوي المارد والتاء في عِفْرِيتٌ زائدة، وقد قالوا تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية، قال وهب بن منبه اسم هذا العفريت كودا، وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني ومن هذا الاسم قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه كوكب في إثر عفرية | مصوب في سواد الليل منقضب |
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان يقابلان قول من قال إن القيام هو من مجلس الحكم، ومن قال إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن يطرف أي قبل أن تصلح عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني تعاطى الأقصر في المدة ولا بد. وقوله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ معناه «قوي» على حمله أَمِينٌ على ما فيه، ويروى أن بلقيس لما فصلت من بلدها متوجهة إلى سليمان تركت العرش تحت أقفال وثقاف حصين فلما علم سليمان بانفصالها أراد أن يغرب عليها بأن تجد عرشها عنده ليبين لها أن ملكه لا يضاهى، فاستدعى سوقه فدعا الذي عنده علم من التوراة وهو الْكِتابِ المشار إليه باسم الله الأعظم الذي كانت العادة في ذلك الزمن أن لا يدعو به أحد إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرش حتى نبع بين يدي سليمان عليه السلام وقيل بل جيء به في الهواء. قال مجاهد وكان بين سليمان وبين العرش كما بين الكوفة والحيرة، وحكى الرماني أن العرش حمل من مأرب إلى الشام في قدر رجع البصر.
قال القاضي أبو محمد: وهي مسيرة شهرين للمجدّ، وقول مجاهد: أشهر، وروي أن الجن كانت صفحة رقم 260