
والخلاصة- إنه لما خرج أصحاب موسى وتتامّ أصحاب فرعون، انطبق عليهم البحر فأغرقهم جميعا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى الذي حدث فى البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، من حيث كان معجزة له، وتحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم بيّن أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئا.
(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وإن أكثرهم لم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات.
وفى ذلك تسلية لرسوله ﷺ فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات على يديه، فنبهه بهذا الذكر إلى أن له أسوة بموسى عليه السلام، فإن ما ظهر على يديه من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب أكثر القبط له وكفرهم به مع ما شاهدوه فى البحر وغيره، وتكذيب بنى إسرائيل، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
ثم توعدهم وقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
وفى هذا بشارة لنبيه بأن النصر سيكتب له، والفوز سيكون حليفه كما قال:
«وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ».
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٨٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)

المعنى الجملي
لما ذكر فى أول السورة شدة حزنه ﷺ على كفر قومه وعدم استجابتهم دعوته، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون فى ذلك تسلية له، وليعلم أنه ليس ببدع فى الرسل، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادا واستكبارا، فقد أتى موسى بباهر المعجزات، وعظيم الآيات، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل، ولم يؤمن به من المصريين إلا النذر اليسير- أردف ذلك بقصص إبراهيم أبى الأنبياء، وخليل الرحمن، وكليم الله، ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد، وآلامه كانت أمض، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم، وقد أكثر حجاجهم حتى حجّهم ولم يجد ذلك فيهم شيئا، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا، فهى لا تسمع دعاءهم «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ» ولو سمعت لم تغن عنهم شيئا. ثم ذكر لهم صفات الرّب الذي ينبغى أن يعبد وفصلها أتم التفصيل.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟) أي واتل على أمتك أخبار إبراهيم إمام الحنفاء، ليقتدوا به فى الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده

لا شريك له والتبري من الشرك وأهله، وقد أوتى الرشد من صغره، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأصنام فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له، ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.
روى أنّ أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل، المزهوّ بجميل ما يصنع.
(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قالوا نعبد الأصنام ونقيم على عبادتها طوال ليلنا ونهارنا. وبعد أن أوضحوا له طريقتهم نبههم إلى فساد معتقدهم بسوق الدليل الذي يرشد إلى بطلانه.
(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟) أي قال لهم:
هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم فيستجيبوا لكم ببذل معونة أو دفع مصرة؟.
ذاك أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه فى المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له ببذل المعونة من جلب نفع أو دفع ضر، فإذا كان ما تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ما استطاع مدّ يد المعونة، فكيف بكم تستسيغون لأنفسكم أن تعبدوا ما هذه صفته؟.
وحينئذ فلجت حجة إبراهيم ولم يجدوا مقالا يقولونه وكأنما ألقمهم حجرا، فعدلوا عن الحجاج إلى اللجاج، وتقليد الآباء والأجداد، وتلك هى حجة العاجز المغلوب على أمره، الذي أظلم وجه الحق أمامه، ولم يهتد لحجة ولا دليل.
فزاد فى تقريعهم وتوبيخهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدّعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلىّ بالمساءة فإنى عدوّ لها، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها، ولكن رب العالمين هو ولى فى الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلا علىّ فيهما.
ونحو هذا قول نوح عليه السلام «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» وقول هود:

«إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد:
(١) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى، وهو الذي يهدينى إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.
(٢) (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي وهو رازقى بما يسرّ من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى.
(٣) (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وهو الذي ينعم علىّ بالشّفاء إذا حصل لى مرض، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً».
والخلاصة- إنى إذا مرضت لا يقدر على شفائى أحد غيره بما يقدّر من الأسباب الموصلة إلى ذلك.
(٤) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو، فهو الذي يبدئ ويعيد، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء.
(٥) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب فى الآخرة إلا هو كما قال: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» وسمى إبراهيم ما صدر منه من عمل- هو خلاف الأولى- خطيئة، استعظاما له.
وخلاصة مقاله- إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هى من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شىء منها.