
قوم موسى لأنهم جدّوا السير في لحوقهم، ورأى قوم موسى قوم فرعون «قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» ٦١ من فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم وذلك لشدة خوفهم منهم لأنهم نشأوا أرقاء عندهم وتوطنت نفوسهم على الذل واشرأبت قلوبهم من سطوتهم فيه وغشيهم الهوان
«قالَ» موسى ثقة بوعد ربه «كَلَّا» لن يدركونا ابدا «إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ٦٢ طريق النجاة منهم فقالوا أين نذهب وقد أدركونا، فلو تركننا بمصر نموت بخدمة فرعون وندفن في أرضه، تريد يا موسى أن تميتنا في هذه البادية؟ وطفقوا يلومونه وهو يأمرهم بالصبر ويعدهم بالنصر وهم يتولون ويقولون قد أدركنا القوم الآن يقتلوننا ولم يقدروا أنّ ما كانوا فيه من الاحتقار والاسترقاق من فرعون وقومه أشدّ من القتل، قال عطاء بن السائب: كان جبريل عليه السلام بين بني إسرائيل وآل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق أولكم آخركم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، فصار بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وقوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن رقة من هذا الرجل، وقد صدقوا جميعا، إذ لا أحسن منه إلّا الأنبياء وهو سيد الملائكة فلما انتهى موسى بقومه الى بحر القلزم قيل هو بحر وراء مصر يقال له أساف قال له مؤمن آل فرعون وكان دائما بين يدي موسى هذا البحر أمامك، وقد غشيك القوم فإلى أين أمرت؟ قال الى البحر، إلا اني لا أدري ما أصنع، ولم أسأل ربي بعد ان أمرني بأن أتجه نحو البحر، إذ ما علي الا الامتثال، وقد قال لى سيأتيك أمري. قال آمنت بأن ربك سيجعل لك مخرجا ولم يتم كلامه حتى نزل وحي الله وهو «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ» بدلالة الفاء الدالة على التعقيب، روي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ إني أعلّمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر، قلت بلى يا رسول الله، قال قل اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله، قال ابن مسعود ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلينا أن نحفظها ونقولها صباح مساء وعند كل ضيق وحاجة. فدعا عليه السلام بما ألهمه الله من هذه

الكلمات وغيرها مستغيثا بربه الكريم ثم ضرب البحر «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ٦٣ الفلق والفرق القطعة من الشيء، ويقال فرق باعتبار الانفصال كالفرقة من القوم، وفلق باعتبار الانشقاق كالقطعة من الجبل، والطود الجبل، ووقف الماء بين الطرق التي شقها الله منه كالجبال الشامخات لعمق الماء وظهرت الأرض يابسة بينها كأن لم يكن فيها ماء، فسار كل سبط تجاهه، روي أن البحر انفلق فيه اتنا عشر طريقا وسلك كل سبط واحدا، وقال السبط الذي معه موسى اين جماعتنا؟ قال امشوا لكل منهم طريق مثلكم يمشون فيه، قالوا لا حتى نراهم لعلهم غرقوا، وأكثروا اللفظ على موسى حتى توقفوا عن السير، وقد أدركهم فرعون وقومه إذ دخل أولهم البحر، فرفع يديه الى ربه وقال اللهم أعني على أخلاقهم الفاسدة، فأمر الله البحر ففتح في كل فرق كوة حتى صار القريب يرى قريبه، والرجل يرى زوجته من السبط الآخر فبادروا بالسير حتى عبروا الى جهة الشام.
مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وان كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام:
وما قيل ان انفلاق البحر كان قوسيا وأنهم خرجوا من الجهة التي دخلوها لا دليل له عليه غير انكار قدرة الله لأن القائلين بهذا لا يعترفون بقدرة الله ويريدون بقولهم هذا ان البحر انحسر بعادة المد والجزر، فدخلوا فيه من جهة انحساره وخرجوا من نفس الجهة من طرف الانحسار لآخر، قاتلهم الله فلو كان كما يقولون لما نجوا من فرعون وقومه، بل لخرجوا معهم لأن المد والجزر يكون من جهة واحدة، وما قيل ان المسالك ثلاثة عشر لا برهان له عليه، ويريد صاحب هذا القول ان لموسى وأخيه مسلكا على حدة، وليس كذلك، لأن موسى في الأسباط لهذا فان ما ذهبنا اليه هو الواقع والموافق لما هو عند أهل الكتاب في كتبهم، ولا نص يكذّبه وجل الآثار والأخبار يشهد بصحته، ومن أصر على الخلاف فعليه الدليل والنقل الصحيح ولا أراه فاعلا والله أعلم، قال تعالى «وَأَزْلَفْنا» قربنا «ثَمَّ» هناك في البحر بعد أن شققناه ودخله قوم موسى «الْآخَرِينَ» ٦٤ فرعون

وقومه وأغريناهم بدخوله لتكون الملامة في الظاهر على فرعون، لأنه هو الذي ساقهم الى هذا والله تعالى قد أهلكهم في أزله على هذه الصورة، ولو تقاعسوا عنها لقسرهم عليها، ولكن سبق في الكتاب أن يكونوا مختارين، قالوا إن فرعون أغرى قومه بالدخول وإياه هو، إلا ان حصانه الجأه لأن الخيل أمامه عطف ففسره على اقتحام طريق البحر ليتم مراد الله، حتى إذا كمل دخولهم آذن الله البحر بالالتئام وقرىء وازلقنا بالقاف وعليه يكون المعنى أذهبنا عزهم قال:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها | وذبيان إذ ذلّت بأقدامها النعل |
قال البحر أطبق على فرعون وقومه فرجعوا ينظرون لضعف ايمانهم، فرأوا جثثهم عائمة، وشاهدوا فرعون نفسه بينهم، فصدقوا ورجعوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» الانفلاق والإنجاء «لَآيَةً» عظيمة ظاهرة لإيمان من يؤمن كافية عن طلب غيرها «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ٦٧ إذ لم يؤمن من آل فرعون الّا زوجته آسية بنت مزاحم، ومريم بنت ناموشا التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، حتى أخذه معه حين خروجه من مصر وخزقيل مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله قصته في الآية ٢٨ فما بعدها من سورة المؤمن في ج ٢، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ٦٨ الغالب المنتقم من أعدائه الودود الرءوف بأوليائه، وفي اسم الإشارة في ذلك والضمير في أكثرهم إشارة إلى أنه يجب على قومك يا محمد الإيمان بالله وأن يعتبروا بما وقع على أمثالهم، ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا القليل بك، وهذا ما يقتضيه سياق التنزيل، لا سيما وقد كررت هذه الآية في هذه السورة ثماني مرات بعد هاتين القصتين، وعقب كل قصة من القصص الست، الآتية، بما صفحة رقم 269

يدل على أن المراد بالأكثر من لم يؤمن من أمة كل نبي، كما ثبت بأن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون في قصة محمد صلّى الله عليه وسلم وأمته المذكورين أولا، وفي قصة موسى وقومه وفي كل قصة من القصص الآتية كقصة ابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب، فتكون كل قصة عبرة لقوم النبي الذين شاهدوها بالدرجة الأولى وبالدرجة الثانية هي عبرة وآية لمن جاء بعدهم من الأمم، وعليه فتكون كلها عبرة لقوم محمد ﷺ علاوة على ما رأوه من الآيات على يده، لأنهم سمعوها من لسان محمد صلّى الله عليه وسلم وسماعها منه مع أنه أمي آية على نبوته، موجبة للإيمان به على من يسمعها من أمته، لأنها بالوحي الإلهي، وبهذا التوفيق يحصل التلاؤم التام بين من جعل الآية لكل نبي خاصة بقومه ومن جعلها كلها خاصة لقريش.
تدبر هذا، فقل أن تقف عليه أو تصادف مثله وهو جواب كاف شاف في إرجاع ضمير أكثرهم، لأن منهم من أرجعه إلى القبط، ومنهم من أعاده لقوم موسى، ومنهم من جعله خاصا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الصحيح الجامع لكل هذه الأقوال ما ذكرته لك فاغتنمه، لأني لخصته من عدة صحائف من كتب التفاسير المطوّلة والمختصرة التي لا يتمكن كل أحد من فهم المطلوب منها المجمع عليه إلا بأيام بل بأشهر لمن كان له وقوف وإلمام بعلم التفسير، وتجد مثل هذا كثيرا في تفسيري هذا لأني والله الذي لا إله إلا هو أقضي الأيام والليالي في التحري على مسألة واحدة، وكم أنام مهموما لعدم الوقوف عليها حتى إذا يسرها الله لي سجدت شكرا لله تعالى وكأني أعطيت الآخرة، أما الدنيا فهي بما فيها تساوي عندي حرفا واحدا، ومن عظيم نعمة الله علي أني أرى أحيانا ما أتوقف عنه في منامي، فأراجعه فيظهر لي كما رأيته، ولله الحمد والمنة، أقول هذا تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا رياء ولا سمعة، ولعل القارئ نظر الله إليه أن ينتبه لهذا فيدعو لي ويطلب لي العفو إذا رأى وتحقق لديه ما قاسيته في هذا التفسير، الذي لم أسبق إليه والحمد لله على توفيقه ولطفه.
قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا أكرم الرسل «نَبَأَ إِبْراهِيمَ» ٦٩ قصته كما تلوت عليهم قصتك وقصة موسى «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ» آزر ويسمى تارخا من قرية من سواد الكوفة واسم أمه مثلى ولا خلاف باسم أبيه هذا، وإنما الخلاف في كون