يديك ولم أكن في مهد تربيتك، وقيل: تِلْكَ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وأَنْ عَبَّدْتَ عطف بيان لها، والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ، وحاصل الرد إنكار ما أمتن به أيضا. ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها عليّ»، وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للإنكار بعد الواو، والأصل وأتاك نعمة إلخ، وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع. وقال أبو حيان: الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه السلام بنعمة فرعون كأنه يقول: وترتبيتك إياي نعمة عليّ من حيث إنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا لكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري وليس بذاك.
وأيا ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لا يبطل نعمته، وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم، وفيه أنه لا ضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين. هذا وذهب الزمخشري إلى أن إِذاً في قوله تعالى: فَعَلْتُها إِذاً جواب وجزاء وبين وجه كون الكلام جزاء بقوله: قول «وفعلت فعلتك» فيه معنى إنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه السلام: نعم فعلتها مجازيا لك تسليما لقوله كان نعمته عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
واعترض بأن هذا لا يلائم قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلا أو ناسيا.
وفي الكشف تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديريا كأنه قال: إن كان ذلك كفرانا بنعمتك فقد فعلته جزاء، ولكن الوصف أي كونه كفرانا غير مسلم. وأمده بقوله: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها وفيه القول بالموجب أيضا. وقوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضا كنت من الحائدين عن منهج الصواب لا في اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الإقدام قبل الإذن من الملك العلام، والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الإحسان بالإساءة وقررها بكونه كافرا، فأجاب عليه السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الإحسان وما كنت كافرا بك فإنه عين الهدى بل ضالا في الإقدام على الفعل وما كنت كافرا لنعمة منعم أصلا ولكن كنت فاعلا لذلك خطأ، ومنه ظهر أن قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ لا ينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده اه.
ولا يخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله: فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالإقدام من غير مبالاة لكن التزام كون إِذاً هنا للجواب والجزاء التزام ما لا يلزم فإن الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب، وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك، وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لا يخلو عن تكلف، والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الإضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية وهم لم يحيطوا بكل شيء علما، وإن أبيت هذا فهي للجواب فقط، ومن العجيب قول ابن عطية: إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله: وكأنها بمعنى حينئذ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل، والله تعالى أعلم.
قالَ فِرْعَوْنُ مستفهما عن المرسل سبحانه وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي. إنه عز وجل لما أمرهما بقوله سبحانه: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فلا بد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولا بقوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلى آخره وثانيا بقوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ولذلك جيء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال: أأنت الرسول وما رب العالمين؟ وقال الزمخشري: إن اللعين لما قال له بوابه: إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: وما رب العالمين؟ واعترض بأنه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار إليه هو في سابق كلامه. وانتصر له صاحب الكشف فقال: أراد أنه تعالى ذكر مرة فقولا إنّا رسولا ربك أن أرسل وأخرى قُولا
صفحة رقم 71
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب من لسانه عليه السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولا في الطعن فيه وإن مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لا يرشح لمنصب عال فضلا عما ادعاه وثانيا في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء، ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لا يدل على اختلال النظم الذي أشار إليه انتهى.
وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولا بقوله: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وسأل ثانيا بقوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد قص الله تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولا وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانيا وهو سورة الشعراء، فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء، وقال آخر: يحتمل أنهما إنما قالا:
َّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود، وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل: إن فرعون سأل في المرة الأولى بقوله: فَمَنْ رَبُّكُما طلبا للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافا للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال: أبشر هو أم ملك أم جني؟ والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلبا للماهية والحقيقة انتقالا لما هو أصعب ليتوصل بذلك إلى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص الله تعالى بعد، وما يسأل بها عن الحقيقة مطلقا سواء كان المسئول عن حقيقته من أولي العلم أو لا فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذ أن يقال من رب العالمين؟ حتى يوجه بأنه لإنكار اللعين له عز وجل عبر بما، ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا.
قالَ عليه السلام عادلا عن جوابه إلى ذكر صفاته عز وجل على نهج الأسلوب الحكيم إشارة إلى تعذر بيان الحقيقة رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا والكلام في امتناع معرفة الحقيقة وعدمه قد مر عليك فتذكر، ورفع رَبُّ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض وما بينهما من العناصر والعنصريات إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بالأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله فإن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدأ واجب لذاته ثم ذلك المبدأ لا بد أن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال، وجواب أن محذوف كما أشرنا إليه.
قالَ فرعون عند سماع جوابه عليه السلام خوفا من أن يعلق منه في قلوب قومه شيء لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه يريد التعجيب منه والإزراء بقائله وكان ذلك لعدم مطابقته للسؤال حيث لم يبين فيه الحقيقة المسئول عنها وكونه في زعمه نظرا لما عليه قومه من الجهالة غير واضح في نفسه لخفاء العلم بإمكان ما ذكر أو حدوثه الذي هو علة الحاجة إلى المبدأ الواجب لذاته عليهم وقد بالغ اللعين في الإشارة إلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله، وكان موسى عليه السلام لما استشعر ذلك من اللعين قالَ عدولا إلى ما هو أوضح وأقرب إعطاء لمنصب الإرشاد حقه حسب الإمكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فإن الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الأنفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه قالَ مبالغا في الرد والإشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحا بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجيء به.
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث يسأل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف، وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لإنكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعا بأنفسهم عن أن يكونوا أهلا لأن يرسل إليهم مجنون.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «أرسل» على بناء الفاعل أي الذي أرسله ربه إليكم، وكأنه عليه السلام لما رأى خشونة في رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة قالَ عليه السلام تفسيرا لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل إليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لا لما رمي به وحاشاه مع الإشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضا بالإصرار على الجواب بالصفات رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السماوات وما فيهما وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى الله تعالى، وفي هذا إرشاد إلى ذلك فإن ذكر المشرق والمغرب منبىء عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السماوات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لا شك في افتقارها إلى محدث قادر عليم حكيم، وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحا إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون.
وقرأ عبد الله وأصحابه والأعمش «رب المشارق والمغارب» على الجمع فيهما، ولما سمع اللعين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجارى في حلبة المحاورة قالَ ضاربا صفحا عن المقاولة إلى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له، وفيه أيضا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له إلها في ذلك الوقت وإن اتخاذه غيره إلها بعد مشكوك، وبالغ في الأبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضا فإن أل في المسجونين للعهد فكأنه قال: لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل: عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا.
هذا وقال بعضهم: السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات، وبهذا ينحل إشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق، ثم إن العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم ربا هو الله عز وجل أولا، فقال بعضهم: كان يعلم ذلك بدليل لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الإسراء: ١٠٢] ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف بأصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤] إنما كان إرهابا لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام: لما جاءه في مدين لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: ٢٥].
وقال بعضهم: إنه كان جاهلا بالله تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه معتقدا وجوب الوجود بالذات للأفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعه استحق العبادة من أهله وكان ربا لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] وأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، وجوز أن يكون من الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدا حلوله عز وجل فيه ولذلك سمى نفسه إلها، وقيل: كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى:
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: ١٢٧] وهو وكذا ما قبله بعيد، والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عز وجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فأظهر لقومه خلاف علمه فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر: ما هذا؟ فقال له: لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقدا صدق ذلك الهذيان: سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيرا من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفا مما يتوهمونه من البلية، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسدا كزعم الحلول ونحوه، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فرعون في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤] وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله: ما رَبُّ الْعالَمِينَ كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه، وجواب موسى عليه السلام له لم يكن إلا لإبطال ما يدعيه ظاهرا وإرشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه، والتعجيب المفهوم من قوله: أَلا تَسْتَمِعُونَ لزعمه ظاهرا أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه، ولما داخله من خوف إذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم: إنه عليه اللعنة كان دهريا إلى آخر ما سمعته آنفا، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم، ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون قالَ على جهة التلطف به والطمع في إيمانه أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي تفعل ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعواي يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده، والتعبير عنها بشيء للتهويل، والواو للعطف على جملة مقابلة للجملة المذكورة، ومجموع الجملتين المتعاطفتين في موضع الحال، ولَوْ للبيان تحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر تحققه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية أي أتفعل في ذلك حال عدم مجيئي بشيء مبين وحال مجيئي به، وتصدير المجيء بلو دون إن ليس لبيان استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون، وجعل بعضهم
الواو للحال على معنى أن الجملة التي بعدها حال أي أتفعل في ذلك جائيا بشيء مبين وهو ظاهر كلام الكشاف هنا، وظاهر كلام الكشف أن الاستفهام للإنكار على معنى لا تقدر على فعل ذلك مع أني نبي بالمعجزة، والظاهر تعلق هذا الكلام بالوعيد الصادر من اللعين فذلك في تفسيره إشارة إلى جعله عليه السلام من المسجونين فكأنه قال: أتجعلني من المسجونين إن اتخذت إلها غيرك ولو جئتك بشيء مبين؟.
وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف ثم قال: يمكن أن يقال إن الواو عاطفة وهي تستدعي معطوفا عليه وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه، والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير، والمعنى أتقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة.
ولَوْ بمعنى أن عزيز، ويؤيد هذا التأويل ما في [الأعراف: ١٠٥] قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ انتهى.
وهو كما ترى. وفيه جعل مُبِينٍ من أبان اللازم بمعنى بان، وجعله من أبان المتعدي وحذف المفعول كما أشرنا إليه أنسب للمقام، ولما سمع فرعون هذا الكلام من موسى عليه السلام قالَ حيث طمع أن يجد موضع معارضة فَأْتِ بِهِ أي بشيء مبين إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء موضح لصدق دعواك أو من الصادقين في دعوى الرسالة من رب العالمين، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنت من الصادقين فأت به، وقدره الزمخشري أتيت به، والمشهور تقديره من جنس الدليل.
وقال الحوفي: يجوز أن يكون ما تقدم هو الجواب وجاز تقديم الجواب لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا، وقد بهت الزمخشري عامله الله تعالى بعدله أهل السنة بما هم منه براء كما بينه صاحب الكشف وغيره فارجع إليه إن أردته فَأَلْقى موسى بعد أن قال له فرعون ذلك عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته أي ليس بتمويه وتخييل كما يفعله السحرة، والثعبان أعظم ما يكون من الحيات واشتقاقه من ثعب الماء بمعنى جرى جريا متسعا، وسمي به لجريه بسرعة من غير رجل كأنه ماء سائل، والظاهر أن نفس العصا انقلبت ثعبانا وليس ذلك بمحال إذا كان بسلب الوصف الذي صارت به عصا وخلقه وصف الذي يصير ثعبانا بناء على رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات إنما المحال انقلابها ثعبانا مع كونها عصا لامتناع كون الشيء الواحد في الزمن الواحد عصا وثعبانا، وقيل: إن ذلك بخلق الثعبان بدلها وظواهر الآيات تبعد ذلك، وقد جاء في الأخبار ما يدل على مزيد عظم هذا الثعبان ولا يعجز الله تعالى شيء، وقد مر بيان كيفية الحال.
وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضا نورانيا.
روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: هل لك غيرها؟ فأخرج عليه السلام يده فقال: ما هذه قال: يدي فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق
قالَ لِلْمَلَإِ أشراف قومه حَوْلَهُ منصوب لفظا على الظرفية وهو ظرف مستقر وقع حالا أي مستقرين حوله وجوز أن يكون في موضع الصفة للملأ على حد:
ولقد أمر على اللئيم يسبني والأول أسهل وأنسب.
ومن العجيب ما نقله أبو حيان عن الكوفيين أنهم يجعلون الملأ اسم موصول وحَوْلَهُ متعلق بمحذوف وقع
صلة له كأنه قيل: قال للذين استقروا حوله إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ قسرا مِنْ أَرْضِكُمْ التي نشأتم فيها وتوطنتموها بِسِحْرِهِ وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن لا سيما إذا كان ذلك قسرا وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم فَماذا تَأْمُرُونَ أي أمر تأمرون فمحل ماذا النصب على المصدرية وتَأْمُرُونَ من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني، وفي جعله عبيده بزعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الألوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجزة بهره وحيره حتى لا يدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الألوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة ولهذا أظهر استشعار الخوف من استيلائه عليه السلام على ملكه.
وجوز أن يكون ماذا في محل النصب على المفعولية وأن يكون «تأمرون» من المؤامرة بمعنى المشاورة لأمر كل بما يقتضيه رأيه ولعل ما تقدم أولى.
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخّر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته، ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لا يأتونه ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وقرأ أهل المدينة والكسائي وخلف «أرجه» بكسر الهاء، وعاصم وحمزة «أرجه» بغير همز وسكون الهاء، والباقون «أرجئه» بالهمز وضم الهاء، وقال أبو علي: لا بد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره، والأحسن أن لا يبلغ بالضم إلى الواو، ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح، وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال: أرجهي كما يقال مررت بهي، وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لا يجوز إسكان نحوها، أَرْجِهْ أعني هاء الإضمار، وزعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي: وقال هو شعر لا يعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطىء.
وقال بعض الأجلة: الإسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقيل: المعنى احبسه، ولعلهم قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلدا ومداهنة لفرعون وإلا فكيف يمكنه أن يحبسه مع شاهد منه من الآيات وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ شرطاء يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك يَأْتُوكَ مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك بِكُلِّ سَحَّارٍ كثير العمل بالسحر عَلِيمٍ فائق في علمه، ولكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية «بكل ساحر عليم» فَجُمِعَ السَّحَرَةُ أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي، وقال الفاضل المحقق: إن المعهود قد يكون عاما مستغرقا كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل.
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان، وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام وَقِيلَ لِلنَّاسِ استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر إليه هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا | أو عبد رب أخا عون بن مخراق (١) |
فإنه يريد ابعث أحدهما إلينا سريعا ولا تبطئ به لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لا موسى عليه السلام، وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى عليه السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملا للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة، وجوز أن يكون مرادهم اتباع السحرة أي الثبات على ما كانوا عليه من الدين ويدعي أنهم كانوا على ما يريد فرعون من الدين.
والظاهر أن فرعون غير داخل في القائلين، وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعي الإلهية السحرة، وجوزه آخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك، ولعل إتيانهم بأن للإلهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي لأجرا عظيما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لا موسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع في كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم.
قالَ فرعون لهم نَعَمْ لكم ذلك وَإِنَّكُمْ مع ذلك إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي، قيل: قال لهم:
تكونون أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج عني. وإِذاً عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من إِذاً التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع. وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي والقاضي تقي الدين بن رزين وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعنى لها. والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم الغالبين لمن المقربين. وقرىء «نعم» بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في نَعَمْ.
قالَ لَهُمْ مُوسى أي بعد ما قال له السحرة: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: ٦٥] أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفرا فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بإلهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال: ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ليتوصل بذلك إلى إبطاله.
وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع، ومما اشتهر من قولهم: الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا أي وقد قالوا عند الإلقاء بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم. أرض عزاز أي صلبة إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ لا موسى عليه السلام، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر. وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ تعظيما له، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمانهم لا يرضون بالقسم بالله تعالى وصفاته عز وجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه فحينئذ يستوثق منه، ولهم أشياء يعظمونها ويحلفون بها غير ذلك، ولا يبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذبا أقل إثما من الحلف بها صدقا وهذا مما عمت به البلوى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم: والأحرى أن
يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحو ذلك.
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع بسرعة، وأصل التلقف الأخذ بسرعة وقرأ أكثر السبعة «تلّقّف» بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين. والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار ما يَأْفِكُونَ أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فما موصولة حذف عائدها للفاصلة، وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي خروا ساجدين إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه، وعبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا فهناك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة، وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الإلقاء فلا حاجة إلى التجوز.
وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لا يسمى إلقاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الإلقاء لو صرح به هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق، وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال:
ولك أن لا تقدر فاعلا لأن (ألقي) بمعنى خروا وسقطوا. وتعقب هذا أبو حيان بأنه ليس بشيء إذ لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لا يقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب، ووجه ذلك صاحب الكشف بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تقدير فاعل آخر غير من أسند إليه المجهول لأنه فاعل الإلقاء ألا ترى أنك لو فسرت سقط بألقى نفسه لصح. والطيبي بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لا تعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي.
وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب. وبالجملة لا بد من تأويل كلام صاحب الكشاف فإنه أجل من أن يريد ظاهره الذي يرد عليه ما أورده أبو حيان، وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعلم أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل. والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لا أن كل سحر كذلك.
وقول القزويني: إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة من خرافات العوام وأسمار النسوة فإن ذلك مما لا يمكن في سحر أبدا لا يخلو عن مجازفة، واستدل بذلك أيضا على أن التبحر في كل علم نافع فإن أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان لفرقهم بين المعجزة والسحر.
وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئيا كما لا يخفى، وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثرا، وقالوا: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانقطاع تعلق الإرادة بوجودها. وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السادس عشر والباب الأربعين من الفتوحات: إن العصا لم تلقف إلا صور الحيات
من الحبال والعصي وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: تَلْقَفْ ما صَنَعُوا [طه: ٦٩] وهم لم يصنعوا إلا الصور ولولا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصا فتأمل قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من (ألقي) لما بين الإلقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال بإضمار قد أو بدونه، ويحتمل أن يكون استئنافا بيانيا كأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللإشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة. ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما.
وجوز أن يكون إضافة الرب إليهما باعتبار وصفهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه السلام: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشعراء: ٢٤] وقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ٢٦] وقوله:
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما [الشعراء: ٢٨] فكأنهم قالوا: آمنا برب العالمين الذي وصفه موسى وهارون، ولا يخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن قالَ فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي بغير أن آذن لكم بالإيمان له كما في قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي [الكهف:
١٠٩] إلا أن الإذن منه ممكن أو متوقع إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ [الأعراف: ١٢٣] إلخ أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل، ولا يرد عليه أنه لا يتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وإن لم يذكرا معا هنا، وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق.
وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر وروح «أآمنتم» بهمزتين فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم. واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلأنتم سوف تعلمون. وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة. وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لا محالة وإن تأخر لداع، وقيل: هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران: ١٥٨] وقال أبو علي: هي اللام التي في لأقومن ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد فكأنه قيل: فلتعلمن، وقوله تعالى حكاية عنه: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بيان لمفعول تَعْلَمُونَ المحذوف الذي أشرنا إليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر، وقد مر معنى مِنْ خِلافٍ قالُوا أي السحرة لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه، والضير مصدر ضار وجاء مصدره أيضا ضورا، وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير، وقوله تعالى: إِنَّا إِلى رَبِّنا أي الذي آمنا به مُنْقَلِبُونَ تعليل لنفي الضير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا من الصبر عليه لوجه الله تعالى من الثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تفعل لأنه لا بد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى الله عز وجل.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره | تعددت الأسباب والموت واحد |
قول علي كرّم الله تعالى وجهه: لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ،
أو لا ضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك، وفي معنى ذلك قوله: صفحة رقم 79
إلى ديان يوم الدين نمضي | وعند الله تجتمع الخصوم |
وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ «إن كنا» بكسر همزة «إن» وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع، وجعل صاحب اللوامح الجواب إِنَّا نَطْمَعُ المتقدم وقال: جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين، وقيل: كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تمليحا وتضرعا لله تعالى، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع نَطْمَعُ على ما هو الظاهر فيه، وجوز أبو حيان أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي،
وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث: «إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب العسل»
، وقال الشاعر:
ونحن أباة الضيم من آل مالك | وإن مالك كانت كرام المعادن |
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وذلك بعد سنين أقام بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وعنادا حسبما فصل في سورة [الأعراف: ١٣٠] بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الآيات. وقرىء «أن أسر» بكسر النون ووصل الألف من سرى. وقرأ اليماني «أن سر» أمرا من سار يسير إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للأمر بالإسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر ليلا بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الفاء فصيحة أي فأسرى بهم وأخبر فرعون بذلك فأرسل فِي الْمَدائِنِ أي مدائن مصر حاشِرِينَ جامعين للعساكر ليتبعوهم إِنَّ هؤُلاءِ يريد بني إسرائيل والكلام على إرادة القول، والظاهر أنه حال أي قائلا إن صفحة رقم 80
هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ أي طائفة من الناس، وقيل: هي السفلة منهم، وقيل: بقية كل شيء خسيس، ومنه ثوب شرذام وشرذامة أي خلق مقطع، قال الراجز:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق | شراذم يضحك منه التواق |
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن موسى عليه السلام خرج في ستمائة ألف وعشرين ألفا لا يعد فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، وقيل: أرسل فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج هو في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وهم كانوا على ما روي عن ابن عباس ستمائة ألف وسبعين ألفا، وأنا أقول: إنهم كانوا أقل من عساكر فرعون ولا أجزم بعدد في كلا الجمعين، والأخبار في ذلك لا تكاد تصح وفيها مبالغات خارجة عن العادة. والمشهور عند اليهود أن بني إسرائيل كانوا حين خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل خلا الأطفال وهو صريح ما في التوراة التي بأيديهم.
وجوز أن يراد بالقلة الذلة لا قلة العدد بل هي مستفادة من شرذمة يعني أنهم لقلتهم أذلاء لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم، وقيل: الذلة مفهومة من شرذمة بناء على أن المراد منها بقية كل شيء خسيس أو السفلة من الناس، وقَلِيلُونَ إما صفة لها أو خبر بعد خبر لأن، والظاهر ما تقدم.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لفاعلون ما يغيظنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذننا مع ما عندهم من أموالنا المستعارة،
فقد روي أن الله تعالى أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فاستعاروه وخرجوا به
، وتقديم لَنا للحصر والفاصلة واللام للتقوية أو تنزيل المتعدي منزلة اللازم وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي إنا لجمع من عاداتنا الحذر والاحتراز واستعمال الحزم في الأمور، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقيق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه أو اعتذارا بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به عليه اللعنة ما يكسر سلطانه.
وقرأ جمع من السبعة. وغيرهم «حذرون» بغير ألف، وفرق بين حاذر بالألف وحذر بدونها بأن الأول اسم فاعل يفيد التجدد والحدوث والثاني صفة مشبهة تفيد الثبات، وقريب منه ما روي عن الفراء والكسائي أن الحذر من كان الحذر في خلقته فهو متيقظ منتبه، وقال أبو عبيدة: هما بمعنى واحد، وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة وأنه يعمل كما يعمل حاذر فينصب المفعول به، وأنشد:
حذر أمورا لا تضير وآمن | ما ليس منجيه من الأقدار |
قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: ٧١]، وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع «حادرون» بالألف والدال المهملة من قولهم: عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم. قال ابن عطية: والمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالويه: الحادر السمين القوي الشديد والمعنى أقوياء أشداء. ومنه قول الشاعر:
أحب الصبي السوء من أجل أمه | وأبغضه من بغضها وهو حادر |
وتعقب بأن الإخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والإخبار عنهم بأنهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة. وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنان فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضا فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر.
وقيل: المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهرة وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة الله تعالى، ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة. وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالا كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذان، وقال ابن جبير: المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر، ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الأنهار وَمَقامٍ كَرِيمٍ هي المساكن الحسان كما قال النقاش، وعن ابن لهيعة أنها كانت بالفيوم من أرض مصر، وقيل: مجالس الأمراء والأشراف والحكام التي تحفها الأتباع، وقيل: الأسرة في الكال، وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنها المنابر للخطباء. وقرأ قتادة والأعرج «ومقام» بضم الميم من أقام كَذلِكَ إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجا مثل ذلك الإخراج أخرجنا، والإشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، وعلى الوجهين لا يرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، والمراد تقرير الأمر وتحقيقه. واختار هذا الطيبي فقال: هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى:
وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي ملكناها لهم تمليك الإرث عطفا عليه، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو فَأَخْرَجْناهُمْ والمعطوف وهو قوله تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ لأن الاتباع عقب الإخراج لا الإيراث.
قال الواحدي: إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن، وعلى غير هذا الوجه يكون (أورثنا) عطفا على (أخرجنا) ولا بد من تقدير نحو فأردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا وأتبعوهم انتهى، ويفهم من كلام بعضهم أن جملة صفحة رقم 82
أَوْرَثْناها إلخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه، وما ذكر عن الواحدي من أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة.
وأظهر منه في هذا ما روي عن الحسن قال: كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين، وقيل: إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذين أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه السلام إلى أرض الشام.
وقيل: إنهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه السلام وملكوها زمن سليمان عليه السلام، والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم إليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي والله تعالى أعلم، ومعنى (أتبعوهم) لحقوهم يقال: تبعت القوم فأتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم مبالغة في اللحوق، وضمير الفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني إسرائيل. وقرأ الحسن «فاتّبعوهم» بوصل الهمزة وشد التاء مُشْرِقِينَ أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء، وقال أبو عبيدة: هو من أشرق توجه نحو الشرق كأنجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق. والجمهور على الأول، وعن السدي أن الله تعالى ألقى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضا، والوصف حال من الفاعل، وقيل: هو حال من المفعول.
ومعنى مُشْرِقِينَ في ضياء بناء على ما روي أن بني إسرائيل كانوا في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولا يكاد يصح ذلك لقوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر، نعم ذكر في التوراة ما حاصله أن بني إسرائيل لما خرجوا كان أمامهم نهارا عمود من غمام وليلا عمود من نار ليدلهم ذلك على الطريق فلما طلبهم فرعون ورأوا جنوده خافوا جدا ولاموا موسى عليه السلام في الخروج وقالوا له: أمن عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البر أما قلنا لك: دعنا نخدم المصريين فهو خير من موتنا في البر فقال لهم موسى: لا تخافوا وانظروا إغاثة الله تعالى لكم ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتحول عمود الغمام إلى ورائهم وصار بينهم وبين فرعون وجنوده ودخل الليل ولم يتقدم أحد من جنود فرعون طول الليل وشق البحر ثم دخل بنو إسرائيل وليس في هذا ما يصحح أمر الحالية المذكورة فتأمل.
وقرأ الأعمش وابن وثاب «ترا» بغير همز على مذهب التخفيف بين بين ولا يصح تحقيقها بالقلب للزوم ثلاث ألفات متسقة وذلك مما لا يكون أبدا قاله أبو الفضل الرازي، وقال ابن عطية وقرأ حمزة «تريئي» بكسر الراء وبمد ثم بهمز، وروي مثله عن عاصم وروي عنه أيضا «تراءى» بالفتح والمد، وقال أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري في كتابه الإقناع تَراءَا الْجَمْعانِ في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا كإمالة الألف المنقلبة.
وقرىء «فلما تراءت» الفئتان قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون جاؤوا بالجملة الاسمية مؤكدة بحرفي التأكيد للدلالة على تحقق الإدراك واللحاق وتنجيزهما، وأرادوا بذلك التحزن وإظهار الشكوى طلبا
للتدبير. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير «لمدّركون» بفتح الدال مشددة وكسر الراء من الإدراك بمعنى الفناء والاضمحلال يقال: أدرك الشيء إذا فني تتابعا وأصله التتابع وهو ذهاب أحد على أثر آخر ثم صار في عرف اللغة بمعنى الهلاك وأن يفني شيئا فشيئا حتى يذهب جميعه، وقد جاء التتابع بهذا المعنى في قول الحماسي:
أبعد بني أمي الذين تتابعوا | أرجي حياة أم من الموت أجزع |
وزعم بعضهم أن في الكلام حذفا والتقدير إن معي وعد ربي ولذلك قال: مَعِي دون معنا وفيه ما فيه.
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ هو القلزم على الصحيح، وقيل: بحر من وراء مصر يقال له أساف، وقيل: النيل، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأمورا بالضرب يوم الأمر بالإسراء،
فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه السلام وبنو إسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون: يا نبي الله أين أمرت فإن البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال: أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه السلام لا يدري كيف يصنع وكان الله تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر.
وأخرج أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء، وقال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل: له اضرب بعصاك البحر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن صفحة رقم 84
عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري من أي جوانبه يضربه،
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله ابن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر.
وروي أنه عليه السلام قال: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
، وفي الدر المنثور من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا ما يدل على أنه عليه السلام قال ذلك حين الانفلاق فَانْفَلَقَ أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة، وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب، وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله، وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام، وإنما أمر عليه السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه إعظاما لموسى عليه السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عز وجل لفلقه بدون ضربه بالعصا،
ويروى أنه لم ينفلق حتى كناه بأبي خالد فقال انفلق أبا خالد: وكان بأمر الله تعالى إياه بذلك
وعن قيس بن عباد أنه عليه السلام حين جاءه قال له: انفلق أبا خالد فقال: لن أنفلق لك يا موسى أنا أقدم منك وأشد خلقا فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق
وفي رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام حين انتهى إليه قال: أنفرق فقال له: لقد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، وفي حديث أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء مرفوعا أنه عليه السلام ضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع
وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثا، وقيل: ضربه مرة واحدة فانفلق، وقيل: ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كان البحر ساكنا لا يتحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر
ولا أظن لهذا صحة، والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق الله تعالى موسى عليه السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره، ومثل هذا عندي كثير من الأخبار السابقة، والأسلم الاقتصار على ما قص الله تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كالجبل المنيف الثابت في مقره، وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل، وقال في الصحاح: الطود الجبل العظيم.
والمراد بالفرق قطعة من الماء ارتفعت فصار ما تحتها كالسرداب على ما ذكره بعض الأجلة، وحينئذ لا إشكال في قول من قال: إن الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني إسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها، والمشهور أن الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لا يتأتى ذلك القول بل لا بد عليه على ما قيل من كون الفروق ثلاثة عشر حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكا بعدد الأسباط، وقيل: إذا كانت الفروق اثني عشر فلا بد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لا بد أن يكونا منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إذ لو اتصلا لم يمييزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقا بل أقل، ولا بعد في أن يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر يجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهم من البحر بين كل منهما وبينه مسلك، ويقال: إن كل سبط من الأسباط الاثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من آمن بموسى عليه السلام من القبط انتهى.
وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى ذلك فعليه البيان، والأبعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة الله تعالى عليه أعظم، وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لا سيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوى أظهر.
فقد روي أن بني إسرائيل قالوا: نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل الله تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا
، نعم قيل عليه: إن في بعض الآثار ما يأباه، فقد أخرج أبو العباس محمد بن إسحاق السراج في تاريخه. وابن عبد البر في التمهيد من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال: وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فإن كون الفرق مقببا كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على الأرض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال.
وأجيب بأنه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق، وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني إسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لا يتأتى ذلك على كون الانفلاق خطيا وإنما يتأتى على كونه قوسيا ثم إنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاما ظاهره الاختلال، وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لا يخلو عن تعسف، وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة ما أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر إلى اثني عشر فرقا أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعا ومنضما إلى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم إليه فرقا واحدا متصلا طرفه بالبر من غير فصل بينه وبينه بشيء. وأورد عليه أنه يلزم عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معا أو متعاقبا في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور، وأيضا يلزم أن يكون كل من الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظا من كل من البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها فيه، وأيضا يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع إليه، ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذاء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعا بمعنى ذاهبا ويكون الفرقان المذكوران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر. ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني إسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء.
ويحتمل أن يكونا منفصلين عن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحرا من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر فيكون هذا المسلك خارج الطود الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من الجانب الآخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر، وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه، ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط، وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جدا وطول زمان قطعه، فالظاهر وقوع
احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون، وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه.
ولا يخفى أنه يلزم عليه أن لا يكون جميع المسالك في خلال الفروق فإن لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكا فلا بأس به، وإن استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلّة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسيا أيضا، ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر وإغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسيا لأنه لو كان خطيا يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداء في أثرهم، واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني إسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فيها فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا إليهم ودخلوا جميعا في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الإثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليم ما غشيهم لا يخفى ما فيه، والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطيا يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق إلى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر.
والظاهر أنه لم يكن شيء من ذلك، ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسيا سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا، وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني إسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم أعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وجوز على القول بأن الانفلاق كان قوسيا أن يكون دخول موسى عليه السلام وقومه من أحد طرفي القوس ودخول فرعون وجنوده من الطرف الآخر ليلاقوا موسى عليه السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولا رجع موسى عليه السلام وقومه القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا أغرق الله تعالى فرعون وجنوده أو حتى إذا كمل جمع موسى عليه السلام دخولا وبان لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا وقد كمل جمع فرعون دخولا أهلك الله تعالى عدوهم فغشيه من اليم ما غشيه وهو كما ترى.
والذي ذهب إليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطيا وأن المسالك اثني عشر مسلكا لكل سبط مسلك ولا تقبيب هناك وأنه قد فتحت لهم كوى ليرى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام، وليس في كتابنا ما هو نص في تكذيبه بل في الأخبار ما يشهد بصحة بعضه، واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته، والآية هنا لا تدل على أكثر من تعدد الفروق والله تعالى أعلم، وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ «كل فلق» باللام بدل الراء، قال الراغب: الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق والفرق يقال اعتبارا بالانفصال. ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس وَأَزْلَفْنا عطف على (أوحينا)، وقيل: على محذوف يقتضيه السياق والتقدير فأدخلنا بني إسرائيل فيما انفلق من البحر وأزلفنا ثَمَّ أي هنالك الْآخَرِينَ أي فرعون وجنوده أي قربناهم من قوم موسى عليه السلام حتى دخلوا
على أثرهم مداخلهم، وجوز أن يراد قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد.
أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد قال: كان جبريل عليه السلام بين الناس بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فجعل يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل آل فرعون فيقول: رويدكم ليلحقكم آخركم فقالت بنو إسرائيل: ما رأينا سائقا أحسن سياقا من هذا وقال آل فرعون: ما رأينا وازعا أحسن زعة من هذا
، وقرأ الحسن وأبو حيوة «وزلفنا» بدون همزة، وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث «وأزلقنا» بالقاف عوض الفاء أي أزلقنا أقدامهم، والمعنى أذهبنا عزهم كقوله:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها | وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل |
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ أي وأنجيناهم من الهلاك في أيدي أعدائهم ومن الغرق في البحر بحفظه على تلك الهيئة إلى أن خرجوا إلى البر، وقيل: وَمَنْ مَعَهُ للإشارة إلى أن إنجاءهم كان ببركة مصاحبة موسى عليه السلام ومتابعته، وقيل: لينتظم من آمن به عليه السلام من القبط إذ لو قيل وقومه لتبادر منه بنو إسرائيل وفيه بحث ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وجنوده بإطباق البحر عليهم بعد خروج موسى عليه السلام ومن معه وكان له وجبة.
روي عن ابن عباس أن بني إسرائيل لما خرجوا سمعوا وجبة البحر فقالوا: ما هذا؟ فقال موسى عليه السلام: غرق فرعون وأصحابه فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل
: والتعبير عن فرعون وجنوده بالآخرين للتحقير، والظاهر أن ثُمَّ للتراخي الزماني، ولعل الأولى حملها على التراخي المعنوي لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من القصة، وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار إليه وقيل: لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة لَآيَةً أي لآية عظيمة توجب الإيمان بموسى عليه السلام وتصديقه بما جاء به، وأريد بها على ما قيل انقلاب العصا ثعبانا وخروج يده عليه السلام بيضاء للناظرين وانفلاق البحر وأفردت لاتحاد المدلول.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى عليه السلام أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل فرعون. وآسية امرأة فرعون، وبعض السحرة على القول بأن بعضهم من القبط لا كلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا. والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف عليهما السلام ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه، وقيل: المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى عليه السلام ومن معه وإغراق الآخرين، وضمير أَكْثَرُهُمْ للناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا معه لعذر ومن بني إسرائيل، والمراد بالإيمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلا أي وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقا يقينيا جازما لا يقبل الزوال فإن الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقا وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين ولذا سألوا بقرة يعبدونها وعبدوا العجل فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور، ويكفي في إيمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني إسرائيل وحيث كان المراد وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الإغراق والإنجاء وظهورهما مؤمنين لا يصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الأقل المؤمن والأكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين، وما ذكر في بيان الأقل المؤمن منهم ليس كذلك إذ إيمان من ذكر
كان في ابتداء الرسالة على أن العجوز من بني إسرائيل كما صفحة رقم 88
جاء في حديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى مرفوعا بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (١)
أنها شارح ابنة أشير بن يعقوب عليه السلام فهي بنت أخي يوسف عليه السلام فتكون أقرب من موسى عليه السلام إلى إسرائيل.
وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لا يلزمه أن يفسر الآية بالإغراق والإنجاء بل يقول: المراد بها المعجزات من العصا واليد وانفلاق البحر ويقول: إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم، وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من بني إسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظاهر وكذا حمل الإيمان على ما ذكر وجعل أكثر بني إسرائيل المخصوصين بالإنجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لا ينبغي صدوره من المؤمنين فإنهم لم يستمروا عليه.
فقد أخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يصفق بيديه ويعجب من بني إسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم جاؤوا موسى عليه السلام فقالوا: قد حضرنا العدو فماذا أمرت قال: إن أنزل هاهنا فإما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع فقالوا هذا عن غير سلطان موسى فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنبا ولا أسرع توبة منهم.
ومتى حمل الإيمان على ما ذكر وصح نفي الإيمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز إرجاع الضمير على بني إسرائيل خاصة فإن أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه. وظاهر عبارة بعضهم يوهم إرجاعه إليهم وليس ذاك بشيء، وقد سلك شيخ الإسلام في تفسير الآية مسلكا تفرد في سلوكه فيما أظن فقال: إن في ذلك أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية وآية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم كيلا يحل بهم ما حل بأولئك أو إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما كان أكثرهم أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة والسلام مؤمنين لا بأن يقيسوا شأنه صلّى الله عليه وسلّم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعا، ومعنى ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ما أكثرهم مؤمنين على أن كانَ زائدة كما هو رأي سيبويه فيكون كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:
١٠٣] وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى:
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا [الشعراء: ٥] إلخ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه.
ويجوز أن تجعل كانَ بمعنى صار كما في قوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [البقرة: ٣٤، ص: ٧٤]
فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: ١] وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا. ثم قال: وأما ما قيل من أن ضمير أَكْثَرُهُمْ لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية ومؤمن آل فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥] فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا وإخراجهم منها آخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكى عنهم من الجنايات أصلا مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. ورجوع ضمير أَكْثَرُهُمْ في قصة إبراهيم عليه السلام إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضا أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترءوا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما الله تعالى إلى الشام فتدبر اه.
وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه. أما أولا فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين.
وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق. وهذا أيضا مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب، وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير أَكْثَرُهُمْ إلى قوم نبينا صلّى الله عليه وسلّم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا سيما في القصص الآتية المصدرة بكذبت، وأما ثالثا فلأن قوله: لا بأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه السلام إلخ لا يخلو عن صعوبة إذ الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما. وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس وأما رابعا فلأن قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن. ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط عليه السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم. وما في قصة نبي الله تعالى شعيب عليه السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال: إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الأول وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات.
أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا، وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال: وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة والسلام مفصلة
قبل نزول هذه الآية مع أن كون حكايته صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعا محل تردد، وأما رابعا فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى: وَأَنْجَيْنا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا وكذا آخر قصة لوط عليه السلام قوله تعالى: فَنَجَّيْناهُ [الشعراء: ١٧٠] ثُمَّ دَمَّرْنَا [الشعراء: ١٧٢] وأَمْطَرْنا [الشعراء:
١٧٣] فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها. وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ١٠٥] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١] وقوله عز وجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في جوابهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: ١١٤] فيكون ضمير أَكْثَرُهُمْ راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك. ومثله كثير في الكلام ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحدا أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط عليه السلام فتأمل انتهى، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين.
وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلّى الله عليه وسلّم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاء لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى.
وأختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شؤونه عز وجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم. وكذا الكلام في كانَ وما يتعلق بالجملة.
والكلام في قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كالكلام فيما تقدم أيضا، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزل من الكلام.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ نادى إلخ أي اذكر ذلك لقومك واتل عليهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم. وتغيير الأسلوب لمزيد الاعتناء بأمر هذه القصة لأن عدم الإيمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن إبراهيم عليه السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب إليه والتأسي به عليه السلام إِذْ قالَ منصوب على الظرفية لنبأ على ما ذهب إليه أبو البقاء أي نبأه وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أو على المفعولية لأتل على أنه بدل من نبأ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي اتل عليهم وقت قوله لهم ما تَعْبُدُونَ على أن المتلو ما قاله عليه السلام لهم في ذلك الوقت. وضمير قَوْمِهِ عائد على إبراهيم، وقيل: عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٧٤] ويلزم عليه التفكيك.
وسألهم عليه السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه السلام قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: ٣٠] ويَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ