
عن هذا، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه، وخالفوا أوامره، واجترحوا معاصيه، ولله در القائل:
تأمل فى رياض الورد ونظر | إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات | على أهدابها ذهب سبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات | بأن الله ليس له شريك |
وفى هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم، وبيان سوء مآلهم.
ثم بشره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه وإظهاره عليهم فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره والقادر على كل ما يريد، وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك وإشراكهم بي وعبادتهم للأوثان والأصنام، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته بل يغفر له حوبته.
والخلاصة- إن ربك عزّ كل شىء وقهره، ورحم خلقه، فلا يعجل بعقاب من عصاه، بل يؤجله وينظره لعله يرعوى عن غيه، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر.
قصص موسى عليه السلام
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ٢٢]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) صفحة رقم 48

المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سوء حال المشركين وشدة عنادهم وقبيح لجاجهم- سلى رسوله ﷺ على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم وأنه ليس بالأوحد فى الأنبياء المكذبين، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات، وعظيم المعجزات، ولم تغن الآيات والنذر فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون، وأخذهم الله بذنوبهم وأغرقهم فى اليم جزاء اجتراحهم للسيئات، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات، وما ربك بظلام للعبيد.
الإيضاح
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، والظالمين لبنى إسرائيل باستعبادهم

وذبح أبنائهم- قوم فرعون ذى الجبروت والطغيان، والعتوّ والبهتان، ليكون لهم فى ذلك عبرة لو تذكروا، فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم، حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم، إذ ابتلعهم اليم وأغرقوا جميعا.
ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه كما أسلفنا من قبل.
ثم أتبع ذكر إرساله عليه السلام إنذارهم وتسجيل الظلم عليهم وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله فقال:
(أَلا يَتَّقُونَ؟) أي قال الله لموسى: ألا يتقى هؤلاء القوم ربهم ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به.
فأجاب موسى عن أمر ربه الإتيان إليهم متضرعا إليه:
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى: رب إنى أخاف تكذيبهم إياى، فيضيق صدرى تأثرا منه ولا ينطلق لسانى بأداء الرسالة، بل يتلجلج بسبب ذلك، كما يرى أن كثيرا من ذوى اللسن والبلاغة إذا اشتد بهم الغم وضاق منهم الصدر تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم.
وفى هذا تمهيد العذر فى استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة، وعدم إلزام الحجة ومن ثم قال:
(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فأرسل جبريل عليه السلام إلى هرون، واجعله نبيا، وآزرنى به واشدد به عضدى، فبإرساله تحصل أغراض الرسالة على أتم وجه.
ثم ذكر سببا آخر فى الحاجة إلى طلب العون وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرسالة فقال:
(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم علىّ تبعة جرم بقتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكز بها، فأخاف إن أنا جئتهم وحدى أن يقتلونى من جرّاء ذلك- وهذا اختصار لما بسط من القصة فى موضع آخر.

ومقصده عليه السلام بهذا طلب دفع بلوى قتله، خوف فوت أداء الرسالة ونشرها بين الملأ كما هو دأب أولى العزم من الرسل، فقد كان النبي ﷺ يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».
وفى هذا إيماء إلى أن الخوف قد يحصل من الأنبياء كما يحصل من غيرهم.
والخلاصة- إن موسى طلب من ربه أمرين: دفع الشر عنه، وإرسال هرون معه، فأجابه إليهما.
(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال له: لا تخف من شىء من ذلك، فاذهب أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتكما به مؤيّدين بآياتنا الدالة على صدقكما، وإنى ناصركما ومعينكما عليه، وهذا كقوله: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى».
(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأتياه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك لتطلق سبيل بنى إسرائيل وتخلّيهم وشأنهم، ليذهبوا إلى الأرض المقدسة موطن الآباء والأجداد التي وعدنا الله بها على ألسنة رسله، وكانوا قد استعبدوا أربعمائة سنة.
قال القرطبي: فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة فى الدخول عليه اهـ.
ووحّد الرسول هنا ولم يثنه كما جاء فى قوله: «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» لأن رسولا يستعمل للمفرد وغيره كما قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم | بسرّ ولا أرسلتهم برسول |
فأجابه فرعون على وجه التفريع والازدراء وذكر أمرين كما حكى سبحانه عنه:
(١) (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك ستين؟) أي أبعد أن ربيناك فى بيوتنا ولم نقتلك فى جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك بنعمنا ردحا من الزمن تقابل الإحسان بكفران النعمة، وتواجهنا بمثل تلك المقالة؟.
روى أنه لبث فيهم ثمانى عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة. صفحة رقم 51

(٢) (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت ذلك القبطي الذي وكزته وهو من خواصى، فكنت من الجاحدين لنعمتى عليك من التربية والإحسان إليك.
وخلاصة ما سلف- إنه عدد نعماءه عليه أولا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وهو من خواصه، وهو بهذا أيضا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله.
فأجاب موسى عن الأمر الثاني، وترك أمر التربية، لأنها معلومة مشهورة، ولا دخل لها فى توجيه الرسالة، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم، سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا.
(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى مجيبا فرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهى قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الجاهلين بأن وكزني تأتى على نفسه، فإنى إنما تعمدت الوكز للتأديب، فأدى ذلك إلى القتل.
(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فخرجت هاربا منكم حين توقعت مكروها يصيبنى حين قيل لى: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» فوهب لى ربى علما بالأشياء على وجه الصواب، وجعلنى من المرسلين من قبله لهداية عباده وإرشادهم إلى النجاة من العذاب.
وخلاصة ما قال- إن القتل الذي توبخنى به لم يكن مقصودا لى، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فرارى، وإن أنتم أسأتم إلىّ فقد أحسن إلىّ ربى فوهب لى فهم الأمور على حقائقها وجعلنى من زمرة عباده المخلصين.
ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة فقال:
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال عبّدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا، وتمنّ من المنة بمعنى الإنعام: أي وما أحسنت إلىّ وربيتنى إلا وقد أسأت إلى بنى إسرائيل جملة، فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم فى أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة.