إنزال القرآن من عند الله لإنذار المشركين وبشارة المؤمنين
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ٢١٢]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
الإعراب:
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ متعلق بنزل، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين، أي لتكون من المنذرين بلغة العرب.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ اسم يكن، وآيَةً خبر مقدم، ولَهُمْ متعلق بحال، والتقدير: أولم يكن لهم علم بني إسرائيل آية لهم. ويَكُنْ يقرأ بالياء والتاء. وعلى قراءة التاء تكون: آية خبر: تكن، والتاء لتأنيث القصة، وأَنْ يَعْلَمَهُ في موضع رفع مبتدأ، ولَهُمْ خبر مقدم، والتقدير: أولم تكن القصة علم بني إسرائيل آية لهم.
الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي، وهو من لا يتكلم بالعربية، أصله: أعجمين، فاستثقلوا
اجتماع الأمثال، فحذفوا الياء الثانية من ياءي النسب، ثم حذفوا الياء الأولى لالتقاء الساكنين، مثل حذفهم ياءي النسب في «الأشعرين ومقتدين والياسين».
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى وإما نافية، وما «الثانية» في موضع رفع ب أَغْنى.
ذِكْرى إما منصوب على المصدر، أي ذكّرنا ذكرى، وإما منصوب على الحال، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: إنذارنا ذكرى.
البلاغة:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ التأكيد بإن واللام لدفع شبهة المتشككين في صحة نزول القرآن.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت.
يَعْلَمَهُ عُلَماءُ جناس اشتقاق.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي من أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحال.
المفردات اللغوية:
الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل عليه السلام، فإنه أمين على وحي الله تعالى عَلى قَلْبِكَ على روحك لأنه مركز الإدراك والتكليف دون الجسد مِنَ الْمُنْذِرِينَ عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى، لئلا يقولوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ وقوله:
مِنَ الْمُنْذِرِينَ معناه من الذين أنذروا بلغة العرب، وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، إذا تعلق قوله بِلِسانٍ بالمنذرين. وأما إذا تعلق بنزل فمعناه نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به، فتنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك لأنك تفهمه ويفهمه قومك.
وَإِنَّهُ أي القرآن المنزل على محمد لَفِي زُبُرِ كتب جمع زبور الْأَوَّلِينَ كالتوراة والإنجيل أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي أولم يكن لكفار مكة دليلا وبرهانا على صحة القرآن، أو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: «أن يعلمه علماء بني إسرائيل» أن يعرفه هؤلاء العلماء، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن آمنوا، فإنهم يخبرون بذلك، بما هو مذكور في كتبهم.
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قرأه محمد عليه السلام على كفار مكة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ما صدقوا به
أنفة من اتباعه، ولفرط عنادهم واستكبارهم كَذلِكَ سَلَكْناهُ أدخلناه، أي مثل إدخالنا التكذيب به أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين أي كفار مكة بقراءة النبي صلّى الله عليه وسلم، وضمير أدخلناه عائد للكفر المدلول عليه بقوله: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وهو يدل على أن الكفر بخلق الله تعالى، وقيل: يعود الضمير للقرآن، أي أدخلناه في قلوبهم، فعرفوا معانيه وإعجازه، ثم لم يؤمنوا به عنادا. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان.
بَغْتَةً فجأة في الدنيا والآخرة لا يَشْعُرُونَ بإتيانه مُنْظَرُونَ مؤخرون لنؤمن به، ويقولون ذلك تحسرا وتأسفا أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ فيقولون: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢]، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف ٧/ ٧٠ وهود ١١/ ٣٢ والأحقاف ٤٦/ ٢٢] أَفَرَأَيْتَ أخبرني ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما استفهامية بمعنى أي شيء، أو نافية، أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه.
لَها مُنْذِرُونَ رسل تنذر أهلها إلزاما للحجة ذِكْرى تذكرة وعظة لهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ في إهلاكهم بعد إنذارهم. وهو رد لقول المشركين وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ كما زعم المشركون أنه من قبيل ما تلقي الشياطين على الكهنة وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي ما يتيسر ولا يتسنى ولا يصح لهم أن يتنزلوا به وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ما يقدرون على ذلك إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ أي لممنوعون بالشهب لأن نفوسهم خبيثة شريرة بالذات لا تقبل ذلك.
سبب النزول: نزول الآية (٢٠٥)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ... :
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: «رئي النبي صلّى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولم، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد؟ فنزلت: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ فطابت نفسه».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسوله، ووعدا له بالفوز
والغلبة، وإنذارا للمشركين من تكذيبه، حتى لا يهلكوا كما أهلك المكذبون السابقون، أردفه ببيان ما يدل على نبوته صلّى الله عليه وسلم من تنزيل القرآن المعجز على قلب نبيه صلّى الله عليه وسلم. كذلك لتتناسب خاتمة السورة مع فاتحتها التي افتتحت بالحديث عن إعراض المشركين عما يأتيهم من الذّكر: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [٥- ٦].
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن خواص الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه وحي من عند الله، بلسان عربي، وللدلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلم، وذلك من وجهين:
الدليل الأول:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي إن القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لفصاحته كان معجزا، فكان تنزيله من ربّ العالمين، كما أن فيه إخبارا عن القصص الماضية من غير تعليم، وذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى. نزل به جبريل الأمين على الوحي والرسالة، ذو المكانة عند الله، المطاع في الملأ الأعلى، على قلبك أي على روحك المدركة الواعية، وفهمك إياه، سالما من الدنس والزيادة والنقص، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة، وكان إنزاله باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بيّنا واضحا قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا على الحق، هاديا إلى الرشاد، مصلحا أحوال العباد.
وقوله عَلى قَلْبِكَ دليل على أن القرآن محفوظ، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم متمكن منه، وثابت في وعيه لأن القلب موضع التمييز، ومركز الحواس الروحية، ومحل الإدراك والوعي، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق ٥٠/ ٣٧]،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الصحيحان: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وندد تعالى بأن قلوب الكفار مغلقة، فقال: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤]، وقال: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦].
وقوله: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ توبيخ للمشركين في مكة وتقريع لهم وتحريض على الإيمان به، فإنهم كذبوه لا لعسر فهمه، فهو بلغتهم، وإنما بسبب العناد والاستكبار والأنفة.
وقوله: مِنَ الْمُنْذِرِينَ يدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح لأنه في كلا الحالين يوجد الخوف من العقاب.
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب المتقدمين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، عملا بالميثاق الذي أخذ به عليهم، وعبر عنه آخرهم وهو عيسى مبشرا بأحمد: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف ٦١/ ٦] والزبر هنا: هي الكتب، وهي جمع زبور، ومنها زبور داود أي كتابه. وكذلك جميع الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها، ويهيمن عليها: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ
[البقرة ٢/ ٨٩]. وقال سبحانه أيضا: وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
[المائدة ٥/ ٤٨].
والخلاصة: إن هذه الآيات تتضمن أدلة ثلاثة على أن القرآن من عند الله:
وهي كونه منزلا على قلب النبي الأمي الذي لم يسبق له علم بشيء منه، والذي وعاه وحفظه وأنذر به، وكونه بلسان عربي مبين تحدى به العرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، بل بسورة منه، فعجزوا، مما يدل على أنه من عند الله، لا من عند محمد، وكونه منوها به ومبشرا به في الكتب السماوية السابقة. وإذا ثبت كون القرآن من عند الله، ثبتت نبوة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني على نبوته صلّى الله عليه وسلم وصدقه:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟ أي أوليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل، وبيان صفة النبي صلّى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وكان مشركو قريش يذهبون إليهم ويسألونهم عن ذلك ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس: أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه، وذكروا نعته. «١»
وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.. الآية [الأعراف ٧/ ١٥٧].
وهذا يدل دلالة واضحة على نبوته صلّى الله عليه وسلم لأن تطابق الكتب الإلهية على إيراد نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته.
وبعد أن بيّن الله تعالى بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق لهجته، بيّن بعدئذ أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال:
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ولو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم، وهم الذين لا ينطقون باللغة العربية، فضلا عن أن يقدروا على نظم مثله، فقرأه عليهم فصيحا معجزا متحدى به، لكفروا به أيضا، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوافُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت ٤١/ ٤٤]، وذلك بحجة عدم فهمهم له.
أما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، فلا عذر لهم في عدم الإيمان به.
وعلى هذا، الأمر سيّان، فسواء أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، أو أنزلناه على أعجمي لا يحسن العربية لكفروا به.
وهذا دليل ملموس على تعنت كفار قريش وعنادهم وشدة كفرهم، مع أنهم عرفوا الحق، وأدركوا سرّ فصاحة القرآن وبلاغته، ولكنهم تجاهلوه عصبية وأنفة واستكبارا. وفيه أيضا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتخفيف لأحزانه لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
ثم أكد الله تعالى هذا الموقف المتعنت فقال:
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أدخلناه ومكنّاه، والمعنى: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجمي على العرب، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش. والمقصود أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على عربي أو أعجمي، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، فإن الكفر به والتكذيب له متمكن في قلوبهم، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من
نفوسهم أي وسيلة علاج أو إصلاح، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧].
وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه إذا عرف هذا الرسول إصرارهم على الكفر، وأنه تمّ القضاء به لسبق علم الله بموقفهم المتصلب الذي لا يتغير، حصل له اليأس من إيمانهم والاطمئنان على سلامة موقفه منهم، وأنه لا ضير عليه في ذلك.
وزاد في التأكيد والتوضيح والبيان فقال:
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي إنهم يظلون كافرين، غير مؤمنين بالحق، جاحدين له في قلوبهم، لا يزالون على التكذيب به، حتى يعاينوا العذاب الشديد الألم.
ثم أخبر الله تعالى عما هو أشد من العذاب وهو مجيئه فجأة، فقال:
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي إن هذا العذاب يأتي أولئك المكذبين بالقرآن فجأة، دون أن يشعروا بمجيئه، وحينئذ يتحسرون، كما قال تعالى:
فَيَقُولُوا: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ؟ مؤخرون، أي إنهم يتمنون حينئذ تأخير العذاب قليلا حينما يشاهدونه، ليتداركوا ما فاتهم، ويعملوا في زعمهم بطاعة الله تعالى، ولكن لا ينفعهم الندم ولن يؤجلوا لأنهم يعلمون ألا ملجأ في الآخرة، وإنما يذكرون ذلك استرواحا.
ومع هذا البيان والإنذار تغلب عليهم الحماقة والجهل، فيطلبون تعجيل العذاب، فقال: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يطلبون تعجيل
العذاب، بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧]، وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف ٧/ ٧٠]، وهم عند نزول العذاب يطلبون التأجيل والتأخير، فهم قوم متناقضون.
وهذا إنكار عليهم وتهديد لهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول صلّى الله عليه وسلم تكذيبا واستبعادا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت ٢٩/ ٢٩].
ثم بيّن الله تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يحدث منهم ليتمتعوا في الدنيا، فقال:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي لو فرض أيها المخاطب أننا لو أطلنا في عيشهم ليتمتعوا من نعيم الدنيا طوال سنين، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة، فلا يجدي أي شيء عنهم ولا ما كانوا فيه من النعيم، ولا يخفف من عذابهم، ولا يدفعه عنهم لأن مدة التمتع في الدنيا مهما طالت متناهية قليلة، ومدة العذاب في الآخرة غير متناهية، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦]، وقال سبحانه: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة ٢/ ٩٦]، وقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل ٩٢/ ١١].
عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة، فقال له:
عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. «١»
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له:
هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتى
بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط، فيقول: لا والله يا ربّ»
أي كأن شيئا لم يكن.
ثم أخبر الله تعالى عن قانون عدله التام الدائم في خلقه، وهو أنه لا يعذب قوما إلا بعد إنذار، ولا يهلك أمة إلا بعد إعذار وبيان الحجة، وبعثة الرسل، فقال:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم من عذابنا على كفرهم، ويبشرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا، وذلك تذكرة لهم وتنبيه إلى ما يجب عليهم، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم، وإنما أصروا على الكفر والجحود وعبادة غيرنا.
وهذا المبدأ شهير مكرر في القرآن، مثل قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥]، وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٩].
ثم ردّ الله تعالى على المشركين الذين كانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن ما أنزل عليه من القرآن مثلما تلقي الشياطين على الكهنة، فقال:
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي إن القرآن العظيم لم تلق به الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة، ولا يتيسر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب، معزولون عن استماع كلام أهل السماء.
فهذا الإنزال يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه «١» :
أحدها:
أنه ليس هو من بغيتهم ولا من مطلبهم لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وفي القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، وتغاير شديد.
الثاني:
أنّه لو انبغى لهم لما استطاعوا تحمله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر ٥٩/ ٢١].
الثالث:
أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله، وتأديته لما وصلوا إليه لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا، في مدة إنزال القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- القرآن الكريم: كلام الله القديم المنزل بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم باللسان العربي المبين، والذي أعلنت عن نزوله كتب الأنبياء المتقدمين. نزل به جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فتلاه عليه، ووعاه قلبه منه، ورسخ في عقله رسوخا كالنقش في الحجر، قال تعالى: قُلْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ.. [البقرة ٢/ ٩٧]، وقال سبحانه:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة ٧٥/ ١٦- ١٩].
ونزوله بلغة العرب لئلا يقولوا: لسنا نفهم ما تقول. وبشّرت بنزوله كتب الأنبياء المتقدمين، كما بشّرت ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم.
٢- أثبتت الآيات نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه مع كونه أميّا بهر العالم ببلاغة القرآن وفصاحته، وإخباره عن المغيبات، وإثرائه الحياة بأنظمة سديدة رصينة لا تقبل الطعن ولا النقد، وهذا العطاء الإلهي دليل قاطع على النبوة. كما أن من الأدلة على النبوة علم أهل الكتاب بأوصاف النبي صلّى الله عليه وسلم ونعوته، سواء من أسلموا أو لم يسلموا.
وإنما صحت شهادة أهل الكتاب وصارت حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في شؤون الدين، يسألونهم عن مدى تطابق القرآن مع ما أخبرت به كتبهم الدينية.
٣- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء هي الإنذار لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ويدخل في الإنذار الدعوة إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح.
٤- إن كفر المشركين من أهل مكة بالقرآن مجرد عناد واستكبار، دون دليل ولا برهان، وإنما على العكس علموا بأنه الحق ثم جحدوه، وكان تحدي القرآن لهم بالإتيان بمثل سورة منه حجة عليهم، فهو منزل بلغتهم، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به، فلم يؤمنوا به وجحدوه عنادا وأنفة ومكابرة، وسموه- زورا وبهتانا- شعرا تارة، وسحرا أخرى.
ولو نزل هذا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان (أعجمي) فقرأه على كفار قريش بغير لغة العرب، لما آمنوا ولقالوا: لا نفقه ما نسمع. فهذا إلزام
لهم، وإنكار عليهم، وفضح لأحوالهم لأن القرآن نزل بلغتهم فهم أولى الناس بالإيمان به.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الموقف المتعنت بقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي إن الذي منعهم من الإيمان، وإعلان الكفر بالقرآن والتكذيب به هو الإصرار على ما هم عليه والحفاظ على رياساتهم ومصالحهم المادية، حتى أصبح ذلك مدخلا سالكا في قلوبهم، خلقا غير قابل للتغيير والتبديل، بمنزلة أمر جبلوا عليه وفطروا، كما يقال: فلان مجبول على الشّح، والمراد تمكن الشّح فيه.
ولا يتصور إيمانهم بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم إلا حين مشاهدة العذاب المؤلم ومعاينته، ومجيئه فجأة دون أن يشعروا به، وهو إما عذاب الدنيا، وإما عذاب الساعة (القيامة) وحينئذ يقولون: هل نحن مؤخرون وممهلون، إنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا فلا يجابون إليها.
ومعنى التعقيب في قوله تعالى: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً،... فَيَقُولُوا كما ذكر الزمخشري: ليس ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال التأخير فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب، فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم فجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم التأخير. ومثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون، فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب: أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، إنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشد من مقتهم، وهو مقت الله «١».
٥- كان جزاء هذا الموقف المتعنت لكفار قريش تبكيتهم بالإنكار عليهم
والتهكم على أمر آخر، وهو: كيف يستعجل العذاب المعرّضون للعذاب؟ ثم يشنع القرآن عليهم ويوبخهم على حبهم إطالة الاستمتاع بالدنيا، فذلك العذاب المنتظر والهلاك كائن لا محالة، ولا يغني عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه.
عن الزهري: إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح، أمسك بلحيته، ثم قرأ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ.
٦- اقتضت عدالة الله ورحمته ألا يهلك قوما أو يعذب أهل قرية إلا بعد إرسال الرسل المنذرين لهم بأس الله وعذابه، فإذا جاء العذاب أو العقاب، لم يكن الله ظالما في تعذيبهم، حيث قدم الحجة عليهم وأعذر إليهم.
٧- القرآن- كما تقدم- نزل به الروح الأمين من عند الله تعالى، ولم تنزل به الشياطين، فإنه لا يتيسر لهم إنزاله، ولا يستطيعون تحمله وتأديته، ولا يتمكنون من اختلاسه واستراقه لأنهم معزولون عن سمع ملائكة السماء برمي الشهب عليهم فتحرقهم.
٨- محل العقل: ورد في الآية أن القرآن منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم فهل المراد بالقلب العضو المعروف في الجانب الأيسر من الإنسان أم العقل الكائن في الدماغ؟ المعروف لدى علماء الطب والتشريح المعاصر أن محل العقل الدماغ.
أما العلماء القدماء فانقسموا فريقين: فريق يرى أن محل العقل القلب، وفريق آخر يرى أن محل العقل الدماغ «١».
واستدل الفريق الأول بالأدلة التالية:
الأول- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها؟ [الحج ٢٢/ ٤٦]،
، وقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف ٧/ ١٧٩]، وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٣٧] أي عقل، أطلق عليه اسم القلب لأنه محله.
الثاني- أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب، وقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة ٢/ ١٠] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة ٢/ ٧] قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء ٤/ ١٥٥] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة ٩/ ٦٤] يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح ٤٨/ ١١] كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين ٨٣/ ١٤] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤]، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦] دلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.
الثالث- إذا أمعن الإنسان في الفكر وغيره أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، مما يدل على أن موضع العقل هو القلب، فوجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم.
الرابع- أن القلب أول الأعضاء تكونا، وآخرها موتا.
واحتج الفريق الثاني القائل بأن العقل في الدماغ بما يأتي:
الأول- أن الحواس التي هي آلات الإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ محل الإحساس.
الثاني- أن الأعصاب آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ مركز التنبيه العصبي.
الثالث- أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل، مثل الجنون والنزف الدماغي.
الرابع- جرى العرف على أن من أريد وصفه بقلة العقل، قيل: إنه خفيف الدماغ، خفيف الرأس.
الخامس- أن العقل أشرف أجزاء الإنسان، فيكون مكانه أشرف، والأعلى هو الأشرف، وذلك في الدماغ، لا القلب.
ورأيي هو ترجيح الرأي الثاني لأن العلم الحديث أجري مئات التجارب على الدماغ وما فيه من مخ ومخيخ، فوجد أنه محل العقل والإحساس والتنبيه والذاكرة وغير ذلك من وظائف الدماغ، فدل على أنه هو محل العقل. أما الآيات القرآنية المتقدمة التي يفهم منها كون العقل في القلب، فذلك من قبيل الإطلاق العرفي السائد في الكلام، والذي يراد به العقل، فيقال: لا قلب عنده، أي لا عقل.
أما القيم الأدبية أو الأخلاقية: فمحلها القلب باعتباره المعبر عن النفس الإنسانية التي لا حياة فيها إلا بالقلب.
ثم إن المعاني المتقدمة التي تختص بالقلوب، ويراد بها المعاني العقلية كالنية والمعلومات والمعارف، قد تنسب إلى الصدر تارة، وإلى الفؤاد أخرى. أما الصدر: فلقوله تعالى: وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات ١٠٠/ ١٠]، وقوله:
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران ٣/ ١٥٤]، وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك ٦٧/ ١٣]، إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران ٣/ ٢٩].
وأما الفؤاد فقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الأنعام ٦/ ١١٠].