
حكمة التنزيل. وقد علقنا على قصة نوح سابقا بما يغني عن التكرار. ومن الجديد فيها قول نوح عليه السلام لقومه إنه لا يسأل قومه على رسالته إليهم أجرا وإن أجره على ربّ العالمين، وإنه رسول أمين إليهم، ووصف قوم نوح الجماعة التي آمنت برسالته بأراذلهم وتهديدهم إياه بالرجم إن لم ينته. ولم يرد هذا في الإصحاحات (٦ و ٧ و ٨) من سفر التكوين التي وردت فيها قصة نوح. ولكن هذا لا يمنع أن ذلك كان متداولا عن طريق اليهود في عصر النبي عليه السلام وبيئته وأن يكون واردا في أسفار وقراطيس أخرى في أيديهم، لأن العبرة إنما تتحقق بذلك. والعبرة هي التماثل بين ما قاله نوح عليه السلام لقومه وما أمر النبي ﷺ من قول مثل ذلك كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة ص قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) والتماثل كذلك بين ما قاله قوم نوح عن المؤمنين وما قاله كفار العرب عن الذين آمنوا برسالة النبي ﷺ على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة الأنعام هذه وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
(٥٣) وفي ذلك تطمين وتثبيت للنبي ﷺ والمؤمنين كما هو واضح.
ولقد أورد البغوي عن الحسن البصري في صدد ورود كلمة الْمُرْسَلِينَ في هذه الحلقة والحلقات التالية مع أن الكلام عن رسول واحد أنه قال في تأويل ذلك إن الآخر جاء بما جاء به الأول فإذا كذبوا واحدا فقد كذبوا الرسل أجمعين. وعلى كل حال فالعبارة أسلوبية، لا تتحمل توقفا ولا تحتاج إلى تخريج كما هو المتبادر.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)

(١) ريع: المكان المرتفع أو الطريق.
(٢) آية: هذه الكلمة بمعنى بناء ولعلها بمعنى حصن أو قلعة أو برج.
(٣) تعبثون: تلهون بما لا يجدي.
(٤) مصانع: قيل إنها بمعنى القصور وقيل إنها بمعنى صهاريج الماء والثاني هو الأرجح لاشتهار اليمن- بلاد عاد وهود- بسدود الماء الصغيرة والكبيرة.
والكلمة تستعمل إلى اليوم في بلاد الشام وغيرها بمعنى بئر الماء أو حوض الماء.
(٥) إن هذا إلّا خلق الأولين: أوّلها بعضهم بمعنى إن ما نحن فيه هو دين الأولين وتقاليدهم. وأوّلها بعضهم بمعنى أن ما تقوله هو ما قاله أناس قبلك أو هو أساطير الأولين.
تعليق على قصة هود
وهذه حلقة رابعة من السلسلة احتوت قصة رسالة هود عليه السلام إلى قومه عاد. وقد ذكرت هذه القصة في سور سابقة وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
وجاءت هنا مع بعض الاختلاف الأسلوبي الذي اقتضته حكمة التنزيل. والجديد هنا تذكير هود عليه السلام قومه بما يسّره الله لهم من أسباب الثروة والرفاه، وبما كانوا ينشئونه بسبيل ذلك من سدود ومنشات، وقوله لهم إني لا أسألكم عليه أجرا، وقول قومه له إنّ ما تقوله وتنذر به شيء مسبوق به ولن نؤمن به، فاستحقوا بذلك عذاب الله. والعبرة في هذا ما كان بين أقوال هود وقومه وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم