آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا
ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣ ﰿ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ

عَنْهُمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ صَاحِبَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ فَمَنْ فَرَّطَ فِي عَمَلٍ فِي أَحَدِهِمَا قَضَاهُ فِي الْآخَرِ،
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ فَاتَتْهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه فِيكَ آيَةً وَتَلَا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ مَا فَاتَكَ مِنَ النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ فَاقْضِهِ فِي نَهَارِكَ، وَمَا فَاتَكَ مِنَ النَّهَارِ فَاقْضِهِ فِي لَيْلِكَ»
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْكِسَائِيِّ يُقَالُ لِكُلِّ شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا هُمَا خِلْفَانِ فَقَوْلُهُ خِلْفَةً أَيْ مُخْتَلِفَيْنِ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا طَوِيلٌ وَهَذَا قَصِيرٌ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَذَّكَّرَ فَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّشْدِيدِ وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّخْفِيفِ وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (يَتَذَكَّرَ)، وَالْمَعْنَى لِيَنْظُرَ النَّاظِرُ فِي اخْتِلَافِهِمَا فَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي انْتِقَالِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ [وتغيرهما] مِنْ نَاقِلٍ وَمُغَيِّرٍ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَذَّكَّرَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعَمِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ لَوْ تَفَكَّرُوا فِي هَذِهِ النِّعَمِ وَتَذَكَّرُوهَا لَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَلِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ عَلَى النِّعْمَةِ فِيهِمَا مِنَ السُّكُونِ بِاللَّيْلِ وَالتَّصَرُّفِ بِالنَّهَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَصِ: ٧٣] أَوْ لِيَكُونَا وَقْتَيْنِ لِلْمُتَذَكِّرِينَ وَالشَّاكِرِينَ، مَنْ فَاتَهُ فِي أَحَدِهِمَا وِرْدٌ مِنَ الْعِبَادَةِ قَامَ بِهِ فِي الْآخَرِ، وَالشُّكُورُ مَصْدَرُ شَكَرَ يَشْكُرُ شُكُورًا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَاتُهُمْ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ بِالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ أشرف صفات المخلوقات، وَقُرِئَ وَعِبادُ الرَّحْمنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِتِسْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَهَذَا وَصْفُ سِيرَتِهِمْ بِالنَّهَارِ وَقُرِئَ يَمْشُونَ هَوْناً حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَشْيِ بِمَعْنَى هَيِّنِينَ أَوْ بِمَعْنَى مَشْيًا هَيِّنًا، إِلَّا أَنَّ فِي وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الصِّفَةِ مُبَالَغَةً، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ وَاللِّينُ وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا»
وَقَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ»
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَشْيَهُمْ يَكُونُ فِي لِينٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَضْرِبُونَ بِأَقْدَامِهِمْ [وَلَا يَخْفُقُونَ بِنِعَالِهِمْ] «١» أَشَرًا وَبَطَرًا، وَلَا يَتَبَخْتَرُونَ لِأَجْلِ الْخُيَلَاءِ كَمَا قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاءِ: ٣٧] وَعَنْ زَيْدِ بْنِ/ أَسْلَمَ الْتَمَسْتُ تَفْسِيرَ هَوْناً فَلَمْ أَجِدْ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لِي هُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ الْفَسَادَ في الأرض، وعن ابن زيد لا

(١) زيادة من الكشاف ٣/ ٩٩.

صفحة رقم 480

يَتَكَبَّرُونَ وَلَا يَتَجَبَّرُونَ وَلَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً مَعْنَاهُ لَا نُجَاهِلُكُمْ وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ أَيْ نُسَلِّمُ مِنْكُمْ تَسْلِيمًا، فَأُقِيمَ السَّلَامُ مَقَامَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ طَلَبَ السَّلَامَةِ وَالسُّكُوتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّنْبِيهَ عَلَى سُوءِ طَرِيقَتِهِمْ لِكَيْ يَمْتَنِعُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمُ الْعُدُولَ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَامَلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِظْهَارَ الْحِلْمِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَهْلِ، قَالَ الْأَصَمُّ: قالُوا سَلاماً أَيْ سَلَامَ تَوْدِيعٍ لَا تَحِيَّةٍ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: سَلامٌ عَلَيْكَ [مَرْيَمَ: ٤٧] ثم قال الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْضَاءَ عَنِ السُّفَهَاءِ وَتَرْكَ الْمُقَابَلَةِ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَسَبَبٌ لِسَلَامَةِ الْعِرْضِ وَالْوَرَعِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ سِيرَتَهُمْ فِي النَّهَارِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْإِيذَاءِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَالْآخَرُ تَحَمُّلُ التَّأَذِّي، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً فَكَأَنَّهُ شَرَحَ سِيرَتَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ فِي النَّهَارِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ سِيرَتَهُمْ فِي اللَّيَالِي عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْخَالِقِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَةِ: ١٦] ثم قال الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ قِيلَ بَاتَ وَإِنْ لَمْ يَنَمْ كَمَا يُقَالُ بَاتَ فُلَانٌ قَلِقًا، وَمَعْنَى يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي لَيَالِيهِمْ مُصَلِّينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةٍ وَإِنْ قَلَّ، فَقَدْ بَاتَ سَاجِدًا وَقَائِمًا، وَقِيلَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَأَرْبَعًا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُمْ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ أَوْ أَكْثَرِهِ يُقَالُ فُلَانٌ يَظَلُّ صَائِمًا وَيَبِيتُ قَائِمًا، قَالَ الْحَسَنُ يَبِيتُونَ للَّه عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَيَفْرِشُونَ لَهُ وُجُوهَهُمْ تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِمْ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ وَقِيَامِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ الْحَسَنُ خَشَعُوا بِالنَّهَارِ وَتَعِبُوا بِاللَّيْلِ فَرَقًا مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ: غَراماً أَيْ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا مُلِحًّا لَازِمًا، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِإِلْحَاحِهِ وَإِلْزَامِهِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ إِذَا كَانَ مُولَعًا بِهِنَّ، وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْغَرَامِ فَقَالَ هُوَ الْمُوجِعُ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي غَراماً أَنَّهُ سَأَلَ الْكُفَّارَ ثَمَنَ نِعَمِهِ فَمَا أَدَّوْهَا إِلَيْهِ فَأَغْرَمَهُمْ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ سَاجِدِينَ وَقَائِمِينَ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ دَعْوَتِهِمْ هَذِهِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ خَائِفُونَ مُبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّه فِي صَرْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٠].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً فَقَوْلُهُ: ساءَتْ فِي حُكْمِ بِئْسَتْ وَفِيهَا ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ تَفْسِيرُهُ (مُسْتَقِرًّا)، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا هِيَ [وَهَذَا الضَّمِيرُ هُوَ الَّذِي رَبَطَ الْجُمْلَةَ بِاسْمِ إِنَّ وَجَعَلَهَا خَبَرًا، لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَاءَتْ بِمَعْنَى أَحْزَنَتْ، وَفِيهَا ضَمِيرُ اسْمِ إِنَّ] «١» وَمُسْتَقِرًّا حَالٌ أَوْ/ تَمْيِيزٌ، فَإِنْ قِيلَ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّه تَعَالَى أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ؟ وَأَيْضًا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُقَامِ؟ قُلْنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَكَرُوا أَنَّ عِقَابَ الْكَافِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضَرَّةً خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ النفع دائمة، فقوله:

(١) زيادة من الكشاف ٣/ ١٠٠ ط. دار الفكر.

صفحة رقم 481

إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مَضَرَّةً خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ النَّفْعِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا دَائِمَةً، وَلَا شَكَّ فِي الْمُغَايَرَةِ، أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُقَامِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ لِلْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَقِرُّونَ فِي النَّارِ ولا يقيمون فيها، وأم الْإِقَامَةُ فَلِلْكُفَّارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً قُرِئَ يَقْتُرُوا بِكَسْرِ التَّاءِ وَضَمِّهَا وَيُقْتِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَأَيْضًا بِضَمِّ الباء وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَكُلُّهَا لُغَاتٌ. وَالْقَتْرُ وَالْإِقْتَارُ وَالتَّقْتِيرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْإِسْرَافِ، وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ وَبِمِثْلِهِ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَعَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ لِعَالِمٍ: مَا الْبِنَاءُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ؟ قَالَ: مَا سَتَرَكَ عَنِ الشَّمْسِ وَأَكَنَّكَ مِنَ الْمَطَرِ، فَقَالَ لَهُ فَمَا الطَّعَامُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ؟ قَالَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ، فَقَالَ لَهُ فِي اللِّبَاسِ، قَالَ مَا سَتَرَ عَوْرَتَكَ وَوَقَاكَ مِنَ الْبَرْدِ،
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فِي إِمْلَاكٍ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: «حَقٌّ فَأَجِيبُوا» ثُمَّ صَنَعَ الثَّانِيَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «حَقٌّ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُجِبْ وَإِلَّا فَلْيَقْعُدْ» ثُمَّ صَنَعَ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «رِيَاءٌ وَلَا خَيْرَ فِيهِ»،
وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْإِسْرَافَ الْإِنْفَاقُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْإِقْتَارَ مَنْعُ حَقِّ اللَّه تَعَالَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ رَجُلٌ مِثْلَ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا فِي طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ سَرَفًا وَلَوْ أَنْفَقَ صَاعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى كَانَ سَرَفًا، وَقَالَ الْحَسَنُ لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعَاصِي اللَّه وَلَمْ يُمْسِكُوا عَمَّا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ حَقِّ اللَّه، وَهُوَ أَقْبَحُ التَّقْتِيرِ، وَقَدْ يَكُونُ عَمَّا لَا يَجِبُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مَنْدُوبًا مِثْلُ الرَّجُلِ الْغَنِيِّ الْكَثِيرِ الْمَالِ إِذَا مَنَعَ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالسَّرَفِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي التَّنَعُّمِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَلَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخُيَلَاءِ، وَالْإِقْتَارُ هُوَ التَّضْيِيقُ فَالْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنِ الْعِبَادَةِ سَرَفٌ وَإِنْ أَكَلَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَذَاكَ إِقْتَارٌ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا لِلتَّنَعُّمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا لِلْجَمَالِ وَالزِّينَةِ، وَلَكِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَسُدُّ جُوعَهُمْ وَيُعِينُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَيَلْبَسُونَ مَا يَسْتُرُ عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد، وهاهنا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الْقَوَامُ قَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَوَامُ بِالْفَتْحِ الْعَدْلُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَبِالْكَسْرِ مَا يَدُومُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَيَسْتَقِرُّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوَامُ الْعَدْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاسْتِقَامَةِ الطَّرَفَيْنِ وَاعْتِدَالِهِمَا، وَنَظِيرُ الْقَوَامِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ السَّوَاءُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ، وَقُرِئَ قَواماً بِالْكَسْرِ وَهُوَ مَا يُقَامُ بِهِ الشَّيْءُ، يُقَالُ أَنْتَ قِوَامُنَا، يَعْنِي مَا يُقَامُ بِهِ الْحَاجَةُ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ وَلَا يَنْقُصُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَنْصُوبَانِ أَعْنِي بَيْنَ ذلِكَ قَواماً جَائِزٌ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ مَعًا، وَأَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ ذَلِكَ لَغْوًا وَقَوَامًا مُسْتَقِرًّا، وَأَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا وَقِوَامًا حَالًا مُؤَكِّدَةً، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ بَيْنَ ذلِكَ اسْمَ كَانَ، كَمَا تَقُولُ كَانَ دُونَ هَذَا كَافِيًا، تُرِيدُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعْنَى بَيْنَ ذلِكَ، أَيْ كَانَ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ قَوَامًا، أَيْ عَدْلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوَامَ هُوَ الْوَسَطُ فَيَصِيرُ التأويل، وكان الوسط وسطا وهذا لغو.

صفحة رقم 482
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية