
قوله عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وذلك حين دعي إلى ملة آبائه، فأمره الله تعالى بأن يتوكل على ربه الكريم وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ قال مقاتل: واذكر بأمره وقال الكلبي: صلِّ بأمره وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يعني: عالماً معناه، وكفى بالله عالماً بذنوب عباده وبمجازاتهم، فلا أحد أعلم بذنوب عباده ومجازاتهم منه.
ثم قال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وقد ذكرناه وتمّ الكلام، ثم قال الرَّحْمنُ قال الزجاج: الرَّحْمنُ رفعه من جهتين. أحدهما: على البدل مما في قوله: ثُمَّ اسْتَوى فبيّن بقوله: الرَّحْمنُ يعني استوى الرحمن على العرش. قال: ويجوز أن يكون على معنى الابتداء. فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً يعني:
فاسأل عنه عالماً. ويقال: معناه ما أخبرتك به من شيء، فهو كما أخبرتك، فاسأل بذلك عالماً حتى يبين لك ذلك كقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس: ٩٤] الآية. خاطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأراد به أمته.
قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ أي صلوا للرحمن، ويقال: اخضعوا له ووحدوه قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ يعني: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب. قالوا: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا لذلك الكذاب. قرأ حمزة والكسائي يأمرنا بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون على المخاطبة وَزادَهُمْ نُفُوراً يعني: زادهم ذكر الرحمن تباعداً عن الإيمان. فمن قرأ بالياء، فمعناه: لما يأمرنا الرحمن بالسجود، ويقال: لما يأمرنا محمد، يعني: لا نسجد لما يأمرنا كقوله: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ [النساء: ٣] يعني: من طاب لكم. ومن قرأ بالتاء، أراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو عبيد: هذا هو الوجه، لأن المشركين خاطبوه بذلك، وكانوا غير مقرين بالرحمن.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦١ الى ٦٧]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥)
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
قوله عز وجل: تَبارَكَ وقد ذكرناه الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني: خلق في السماء بروجاً، يعني: نجوماً وكواكب. ويقال: قصوراً. وذكر أنه جعل في القصور حراساً، كما قال في موضع آخر: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً [الجن: ٨] الآية.

ويقال: البروج الكواكب العظام، وكل ظاهر مرتفع فهو برج، وإنما قيل لها بروج لظهورها وارتفاعها، ثم قال تعالى: وَجَعَلَ فِيها يعني: خلق فيها سِراجاً يعني: شمساً وَقَمَراً مُنِيراً يعني: منوراً مضيئاً. قرأ حمزة والكسائي سُرُجاً بلفظ الجمع، يعني:
الكواكب. وقرأ الباقون سِراجاً وبه قال أبو عبيدة: بهذا نقرأ. كقوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ولأنه قد ذكر الكواكب بقوله: بُرُوجاً.
ثم قال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي: خلق الليل والنهار خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي خليفة يخلف كل واحد منهما صاحبه. يذهب الليل ويجيء النهار، ويذهب النهار ويجيء الليل، ويقال: خِلْفَةً يعني: مخالفاً بعضه لبعض، أحدهما أبيض، والآخر أسود، فهما مختلفان كقوله عز وجل: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية.
وروي عن الحسن أنه قال: النهار خلف من الليل لمن أراد أن يعمل بالليل فيفوته فيقضي، فإذا فاته بالنهار يقضي بالليل لمن أراد أن يذكر. قرأ حمزة يَذَّكَّرَ بالتخفيف في الذال، وضم الكاف. يعني: يذكر ما نسي إذا رأى اختلاف الليل والنهار. وقرأ الباقون بالتشديد وأصله: يتذكر يعني: يتعظ في اختلافهما، ويستدل بهما أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني: العمل الصالح ويترك ما هو عليه من المعصية. ويقال: أَوْ أَرادَ شُكُوراً، أي توحيداً وإقراراً، فيمكنه ذلك.
قوله عز وجل: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ يعني: وإن من عباد الرحمن عباداً يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً يعني: يمضون متواضعين، وهذا جواب لقولهم وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ؟
فقال: الرحمن الذي جعل في السماء بروجاً، وهو الذي له عباد مثل هؤلاء. يعني: أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان مثل حالهم، وهذا كقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ [مريم: ٦١] وكقوله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ [الزمر: ١٧] الآية.
وقال مجاهد: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قال: في طاعة الله متواضعين. ويقال:
هَوْناً، أي: هيناً لا جور منهم على أحد ولا أذى. ويقال: هَوْناً يعني: سكينة ووقاراً وحلماً. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني: كلمهم الجاهلون بالجهل قالُوا سَلاماً يعني:
سداداً من القول. ويقال: ردوا إليهم بالجميل. وقال الحسن: يعني: حلماً لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا. وقال الكلبي: نسخت بآية القتال. وقال بعضهم: هذا خطأ، لأن هذا ليس بأمر، ولكنه خير من حالهم، والنسخ يجري في الأمر والنهي.
ثُمَّ وصف حال لياليهم فقال عز وجل: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً يعني: يقومون بالليل في الصلاة سجداً وَقِياماً يعني: يكونون في ليلتهم مرة ساجدين، ومرة قائمين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: «من صلى ركعتين أو أربعاً بعد العشاء، فقد بات لله ساجداً وقائماً».