آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ

استهزاء المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلم وتسمية دعوته إضلالا
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
الإعراب:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً إِنْ بمعنى «ما» أي ما يتخذونك إلا ذا هزء أو موضع هزء أو مهزوءا به، مثل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي ما الكافرون إلا في غرور. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكي بعد قول مضمر تقديره: قائلين: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
وأَ هذَا مبتدأ، والَّذِي خبره، ورَسُولًا إما منصوب على الحال وهو الأولى، أو على المصدر، بجعل رَسُولًا بمعنى «رسالة» مثل قول الشاعر:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة.
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا إِنْ هنا عند البصريين مخففة من الثقيلة، تقديره: ما كاد إلا يضلّنا.
البلاغة:
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا الاستفهام للاستهزاء والتهكم، والإشارة للاستحقار.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب، وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به، والأصل: اتخذ هواه إلها له، بأن أطاعه وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا.

صفحة رقم 70

المفردات اللغوية:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا هناك محذوف تقديره: يقولون، أو قائلين: أهذا الذي بعث الله رسولا في دعواه، والاستفهام للاستهزاء والتقدير، والإشارة للاستحقار وعدم تأهله للرسالة في زعمهم. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا... يصرفنا وإِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي إنه قارب إضلالنا، وصرفنا عن آلهتنا بفرط اجتهاده في الدعوة إلى التوحيد، لولا أننا ثبتنا على عبادة آلهتنا. وهذا اعتراف صريح من المشركين بأن محمدا بلغ الغاية في الدعوة إلى ربه.
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ عيانا في الآخرة، وهذا كالجواب عن قولهم: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا فإنهم نسبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الضلال، وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه، وإن طالت مدة الإمهال، ولا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير، وسينزل بهم العقاب ويعرفون حينئذ من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون؟! أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أخبرني عمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا وَكِيلًا حافظا تحفظه عن اتباع هواه أي مهويه، وتمنعه عن الشرك والمعاصي، وحاله هذا؟ لا، فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني للإنكار.
أَمْ تَحْسَبُ بل أتحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع تفهم أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقول لهم، فتجديهم الآيات أو الحجج، فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي ما هم إلا كالسوائم في عدم انتفاعهم بقرع الآيات بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا منها لأنها تنقاد لمن يتعهدها بالرعاية، وهم لا يطيعون مولاهم وخالقهم المنعم عليهم بنعم كثيرة، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار.
سبب النزول: نزول الآية (٤١) :
روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟.

صفحة رقم 71

المناسبة:
بعد بيان مواقف المشركين في إنكار نزول القرآن من الله، والطعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعدم الإيمان برسالته، وإيراد الشبهات الواهية حول ذلك، أبان الله تعالى إسرافهم في الشطط والغلو والاستعلاء، وإساءتهم لهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم بالاستهزاء به، والاستهانة بشخصه، والحط من قدره، متهكمين على اختياره للبعثة النبوية، ومغالين في ذلك حتى سموا دعوته إضلالا، ولجؤوا إلى التحذير من تأثير تلك الدعوة القوية والآيات والحجج البالغة التي شارفت أن تجرفهم إلى الإيمان، وترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا ثباتهم على الوثنية، واستمساكهم بعبادة آلهتهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلّى الله عليه وسلم وتعييره بالعيب والنقص، فيقول:
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي إذا رآك أيها النبي المشركون الذين كفروا بالله ورسوله، ما يتخذونك إلا موضع هزء وسخرية، أو مهزوءا به، مقارنة بما هم عليه من العزة والسيادة والغنى، وما أنت عليه من الفقر واليتم والمسكنة.
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ويقولون على سبيل التنقص والازدراء:
أهذا المبعوث من عند الله رسولا إلينا؟ كما قال تعالى في شأن غيره: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام ٦/ ١٠].
قبحهم الله، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا المثل الأعلى للأنبياء وللبشر قاطبة في مشيه وسلوكه وتصرفاته وأخلاقه وفكره ومنطقه العذب، ولكنه العناد في

صفحة رقم 72

الكفر الذي يصر أهله على تدليس الحقائق وطمس الفضائل، وهم في أصائل قلوبهم يرون الحقيقة ويظهرون غيرها، بدليل قولهم الآتي: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي قارب محمد أن يثنيهم عن عبادة الأصنام، ويحملهم على ترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على ما هم عليه، وتمسكوا بالوثنية والأسطورة والخرافة التي لا يقبل بها عاقل رشيد.
وفي هذا دلالة واضحة على تناقضهم وإظهارهم خلاف ما يعتقدون من الحقيقة لأنهم عرفوا محمدا الصادق الأمين الراجح العقل في غضون أربعين عاما من العمر قبل النبوة، ولم يوجهوا له يوما ما أي طعن أو نقد، وإنما على العكس كان محل احترام وإجلال من جميع قومه، كما هو معروف.
ثم إن في هذا القول اعترافا ضمنيا بقوة تأثير محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم، بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام بحجج بالغة وأدلة دامغة، حتى إنهم شارفوا مفارقة دينهم إلى الإسلام، لولا المكابرة والعناد والاستكبار والغلو، فراحوا يقولون بأن صنيعه إضلال.
وبعد أن حكى الله تعالى كلامهم زيّف طريقتهم وسفه آراءهم من وجوه ثلاثة:
الأول:
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا هذا وعيد شديد لهم وتهديد على التعامي عن الحق والإعراض عن الاستدلال والنظر، وعلى وصفهم له بالإضلال، فإنهم حين يشاهدون العذاب الذي لا مفرّ لهم منه يدركون من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون وهو صلّى الله عليه وسلم قائدهم، ومن الضّال ومن المضلّ؟
الثاني:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وهذا تنبيه على

صفحة رقم 73

عدم الفائدة من دعوة من سيطرت عليه الأهواء إلى الدين الحق، فانظر فيمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، واستولى عليه التقليد، وصمّ أذنه عن سماع الدليل المقنع والبرهان الساطع، فكل ما زين له الهوى شيئا انقاد له، وحينئذ لن تستطيع منعه من الشرك والمعاصي، ولن تكون مستطيعا دعوته إلى الهدى ولا وليا حافظا على شؤونه لتقمعه عن الضلال، وترشده إلى الهدى والصواب فما استحسنه بهواه جعله دينه ومذهبه، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَرَآهُ حَسَناً، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ الآية [فاطر ٣٥/ ٨].
قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني، وترك الأول.
وهذا دليل على ألا حجة لهم في عبادة الأصنام إلا التقليد واتباع الأهواء، ولا يرشد إلى طريقهم فكر ولا عقل سليم.
ونظير الآية قوله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢٢]، وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق ٥٠/ ٤٥]، وقوله عزّ وجلّ:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة ٢/ ٢٥٦].
الثالث:
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وهذا ذمّ أشد مما سبق، لذا عبر عنه بقوله أَمْ أي بل للإضراب عما سبق إليه، والمعنى بل أتظن أن أكثرهم يسمعون سماع تدبر وفهم، أو يتعقلون ويفكرون فيما تتلو عليهم، وترشدهم إليه من الفضائل والأخلاق الحميدة، فتجهد نفسك في إقناعهم بدعوتك، ونقلهم إلى العقيدة الصحيحة، فما حالهم إلا كالأنعام السائمة، بل هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة، وأخطأ طريقا منها، فإن تلك البهائم تفعل ما هو خير لها ونفع، وتتجنب ما هو ضارّ

صفحة رقم 74

بها وخطر عليها، أما هؤلاء فلا يقدّرون مصلحتهم حق التقدير، فتراهم متهورين في المعاصي، قاذفين أنفسهم في المهالك، لا يشكرون نعمة الخالق عليهم ولا يعرفون إحسانه، وإساءة الشيطان لهم، ولا يفعلون ما يحقق لهم الثواب الأخروي، ولا يتجنبون ما يؤدي بهم إلى العقاب والعذاب.
والسبب في قوله أَكْثَرَهُمْ لا الكل أن بعضهم عرف الله تعالى وعلم أن الإسلام حق، لكنه لم يعلن إسلامه لمجرد حب الرياسة.
وهذا دليل على فقدهم الإدراك الصحيح والوعي السليم، وتعطيلهم طاقات الحواس والمواهب الإلهية التي لو فكروا بموجبها دون تأثر بعصبية، أو تقليد موروث، أو هوى متبع كحب الزعامة والسيطرة، لانقادوا إلى رسالة الحق والتوحيد، وآمنوا بدعوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- اتّخذ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم موضع استهزاء وسخرية، فهل بعد هذا من جرم أفظع منه وأشنع؟
٢- دلّ قوله تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا.. على أمور: هي أنهم سمّوا ذلك إضلالا، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم بلغ أقصى الجهد والاجتهاد في صرفهم عن عبادة الأوثان، وأنهم لم يعترضوا على دلائل النبوة إلا بمحض الجحود والتقليد، وأن القوم أقروا بقوة حجته صلّى الله عليه وسلم وكمال عقله، لكنهم طاشوا كالمجانين، فاستهزؤوا به، وذلك فعل الجاهل العاجز المتحير في أمره.
٣- كان الرد الحاسم من الله على قبائح المشركين هذه من وجوه ثلاثة:

صفحة رقم 75
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية