أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الْخَبَرَ لَمَا ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَتَصْبِرُونَ لِأَنَّ أَمْرَ الْعَاجِزِ غَيْرُ جَائِزٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى أَتَصْبِرُونَ عَلَى الْبَلَاءِ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا وَعَدَ اللَّه الصَّابِرِينَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ لَا يَصْبِرُ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَتَصْبِرُونَ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيرُ وَمَوْقِعُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْفِتْنَةِ مَوْقِعُ أَيُّكُمْ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا هُوَ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ لِمُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاصِلُهَا: لِمَ لَمْ يُنْزِلِ اللَّه الْمَلَائِكَةَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ نَرى رَبَّنا حَتَّى يُخْبِرَنَا بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا؟ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَطْعًا وَالْآخَرُ قَدْ يُفْضِي وَقَدْ لَا يُفْضِي، فَالْحَكِيمُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يَخْتَارَ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ الطَّرِيقَ الْأَقْوَى وَالْأَحْسَنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ لِيَشْهَدُوا بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ إِفْضَاءً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَلَوْ أَرَادَ اللَّه تَعَالَى تَصْدِيقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلَ ذَلِكَ وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَرَادَ تَصْدِيقَهُ هَذَا حَاصِلُ الشبهة، ثم هاهنا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ لِقَاءَنَا وَوَضْعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ لُغَةٌ تِهَامِيَّةٌ، إِذَا كَانَ مَعَهُ جَحْدٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: ١٣] أَيْ لَا تَخَافُونَ لَهُ عَظَمَةً، وَقَالَ الْقَاضِي لَا وَجْهَ لِذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ حَالِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَنَّهُمْ كَمَا لَا يَخَافُونَ الْعِقَابَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْمَعَادِ، فَكَذَلِكَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَوَعْدَنَا عَلَى الطَّاعَةِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ/ لَا يَرْجُو ذَلِكَ لَا يَخَافُ الْعِقَابَ أَيْضًا، فَالْخَوْفُ تَابِعٌ لِهَذَا الرَّجَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِقاءَنا أَنَّهُ جِسْمٌ وَقَالُوا اللِّقَاءُ هُوَ الْوُصُولُ يُقَالُ هَذَا الْجِسْمُ لَقِيَ ذَلِكَ أَيْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَاتَّصَلَ بِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: ١٢] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جِسْمٌ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَيْنِ الْأَوَّلُ: طَرِيقُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ الْمُرَادُ مِنَ اللِّقَاءِ هُوَ الرُّؤْيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّائِيَ يَصِلُ بِرُؤْيَتِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الْمَرْئِيِّ فَسُمِّيَ اللِّقَاءُ أَحَدَ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَةِ وَالنوع الْآخَرُ الِاتِّصَالُ وَالْمُمَاسَّةُ،
فَدَلَّتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الوجه عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ الْقَاضِي تَفْسِيرُ اللِّقَاءِ بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، فَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ لَقَّاكَ اللَّه الْخَيْرَ وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ لَمْ أَلْقَ الْأَمِيرَ وَإِنْ رَآهُ مِنْ بُعْدٍ أَوْ حُجِبَ عَنْهُ، وَيُقَالُ فِي الضَّرِيرِ لَقِيَ الْأَمِيرَ إِذَا أُذِنَ لَهُ وَلَمْ يُحْجَبْ وَقَدْ يَلْقَاهُ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَلَا يراه بل المراد من اللقاء هاهنا هُوَ الْمَصِيرُ إِلَى حُكْمِهِ حَيْثُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ فِي يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئا لَا أَنَّهُ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ لِأَنَّا لَا نُفَسِّرُ اللِّقَاءَ بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ بَلْ نُفَسِّرُهُ بِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَبَيْنَ الِاتِّصَالِ وَالْمُمَاسَّةِ وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّائِيَ يَصِلُ بِرُؤْيَتِهِ إِلَى الْمَرْئِيِّ وَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فَيَصِحُّ قَوْلُهُ لَقَّاكَ الْخَيْرَ، وَيَصِحُّ قَوْلُ الْأَعْمَى لَقِيتُ الْأَمِيرَ، وَيَصِحُّ قَوْلُ الْبَصِيرِ لَقِيتُهُ بِمَعْنَى رَأَيْتُهُ وَمَا لَقِيتُهُ بِمَعْنَى مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ:
وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَجَاءُ اللِّقَاءِ حَاصِلًا، وَمُسَمَّى اللِّقَاءِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوُصُولِ الْمَكَانِيِّ، وَبَيْنَ الْوُصُولِ بِالرُّؤْيَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْأَوَّلُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنَ اللِّقَاءِ الْوُصُولُ إِلَى حُكْمِهِ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ بَلْ عَلَى وُجُوبِهَا، بَلْ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهَا لَيْسَ إِلَّا مِنْ دِينِ الْكُفَّارِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: لَوْلا أُنْزِلَ مَعْنَاهُ هَلَّا أُنْزِلَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ وَأَصْحَابِهِمَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ كَوْنِهِ جَوَابًا، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ظَهَرَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا فَقَدْ ثَبَتَتْ دَلَالَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ اقْتِرَاحُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَحْضَ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لَوْ حَصَلَ لَكَانَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ بِنُزُولِ الْمَلَكِ، بَلْ لِعُمُومِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَيَكُونُ قَبُولُ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ وَرَدُّ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمَثَلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ فَائِدَةٍ وَمُرَجِّحٍ، وَهُوَ مَحْضُ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَرَوُا الرَّبَّ وَيَسْأَلُوهُ عَنْ/ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ نَعَمْ هُوَ رَسُولِي، فَذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْجِزَ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ إذا لَا فَرْقَ وَقَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَيْنَ أَنْ يقول اللهم إن كنت صادقا فأحيي هَذَا الْمَيِّتَ فَيُحْيِيهِ اللَّه تَعَالَى وَالْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِمِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، وَإِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ الْحَاصِلُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْحَاصِلُ بالمعجز تعيين فِي كَوْنِهِ تَصْدِيقًا لِلْمُدَّعِي كَانَ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا مَحْضَ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ على ما يقوله المعتزلة، أن نَقُولُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَفْعَلُ بِحَسَبِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا الْمُعْجِزَ إِذْ رُبَّمَا كَانَ إِظْهَارُ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَفْسَدَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَكَانَ التَّعْيِينُ اسْتِكْبَارًا وَعُتُوًّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ مَصْلَحَةً قَطَعَ بِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَذَلِكَ اسْتِكْبَارٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْتَرِحَ عَلَى رَبِّهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ فَكَانَ الِاقْتِرَاحُ اسْتِكْبَارًا وَعُتُوًّا وَخُرُوجًا عَنْ جد الْعُبُودِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أن
الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ فَالْمَلِكُ الْكَبِيرُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى بَعْضِ الضُّعَفَاءِ رَحْمَةً عَلَيْهِ فَأَخَذَ ذَلِكَ الضَّعِيفُ إِلَى اللَّجَاجِ وَالنِّزَاعِ، وَيَقُولُ لَا أُرِيدُ هَذَا بَلْ أُرِيدُ ذَاكَ، حَسُنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْمُكْدِيَ قَدِ اسْتَكْبَرَ فِي نَفْسِهِ وَعَتَا عُتُوًّا شَدِيدًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ نَفْسِهِ وَمُنْتَهَى درجته فكذا هاهنا وَسَادِسُهَا: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ مَا ذَكَرُوا هَذَا السُّؤَالَ لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ الشَّدِيدِ لَأَعْطَيْتُهُمْ مُقْتَرَحَهُمْ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا الِاقْتِرَاحَ لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ وَالتَّعَنُّتِ فَلَوْ أَعْطَيْتُهُمْ مُقْتَرَحَهُمْ لَمَا انْتَفَعُوا بِهِ فَلَا جَرَمَ لَا أُعْطِيهِمْ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُعْرَفُ مِنَ اللَّفْظِ وَسَابِعُهَا: لَعَلَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَمَا كَانَ سُؤَالُهَا عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، قَالُوا وَقَوْلُهُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لَيْسَ إِلَّا لِأَجْلِ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى لَوْ أَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لَمَا خُوطِبُوا بِذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَمْرَ الرُّؤْيَةِ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ وَذَكَرَ الِاسْتِعْظَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [الْبَقَرَةِ: ٥٥] وَذَكَرَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى حِدَةٍ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِعْظَامَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ وَهَلْ نَرَى الْمَلَائِكَةَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ وَالْعُتُوَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ قَدْ تقدم في سورة البقرة، والذي نريده هاهنا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ/ وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا يَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَأَمَّا الِاسْتِكْبَارُ وَالْعُتُوُّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُسْتَحِيلَةٌ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مُحَالًا، لَا يُقَالُ إِنَّهُ عَتَا وَاسْتَكْبَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ لَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ بِطَلَبِ هَذَا الْمُحَالِ عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، بَلْ قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨] بَلِ الْعُتُوُّ وَالِاسْتِكْبَارُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا طَلَبَ الْإِنْسَانُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِمَّنْ فَوْقَهُ أَوْ كَانَ لَائِقًا بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَطْلُبُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ سَوَاءً كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةً أَوْ مُمْكِنَةً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ مَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ شَوْقًا، وَهَؤُلَاءِ طَلَبُوهَا امْتِحَانًا وَتَعَنُّتًا، لَا جَرَمَ وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فَثَبَتَ فَسَادُ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا الِاسْتِكْبَارَ [عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ] «١» فِي قُلُوبِهِمْ وَاعْتَقَدُوهُ كَمَا قَالَ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِرٍ: ٥٦] وَقَوْلُهُ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أَيْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي الظلم يقال عتا [عَتَا] «٢» فُلَانٌ وَقَدْ وَصَفَ الْعُتُوَّ بِالْكِبْرِ فَبَالَغَ فِي إِفْرَاطِهِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَرِئُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا غَايَةَ الِاسْتِكْبَارِ وَأَقْصَى الْعُتُوِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً فَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي سَأَلُوهُ سيوجد، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، وهاهنا مسائل:
(٢) المصدر السابق. [.....]
المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي انْتِصَابِ يَوْمَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامِلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَا بُشْرى أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ (يَبْغُونَ الْبُشْرَى) «١» ويَوْمَئِذٍ لِلتَّكْرِيرِ الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ اذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَافِرِ لَا بُشْرَى لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا إِلَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ هَادِيًا مُهْتَدِيًا، فَكَانَ يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا عَمِلُوا مَا رَجَوْا فِيهِ النَّفْعَ كَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَعَطِيَّةِ الْفَقِيرِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَكِنَّهُ أَبْطَلَهَا بِكُفْرِهِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُشَافَهُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْيَأْسِ وَالْخَيْبَةِ، وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْإِيلَامِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: ٤٧].
المسألة الرَّابِعَةُ: حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى لَهُمْ، لَكِنَّهُ قَالَ لَا بُشْرَى لِلْمُجْرِمِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي مَوْضِعِ ضَمِيرٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فَقَدْ تَنَاوَلَهُمْ بِعُمُومِهِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ وَعَدَمِ الْعَفْوِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْبُشْرَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ/ أَرَادَ تَكْذِيبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَالَ بَلْ لَهُ بُشْرَى فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، فَلَمَّا كَانَ ثُبُوتُ الْبُشْرَى فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ يُذْكَرُ لِتَكْذِيبِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا بُشْرى يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبُشْرَى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ: حِجْراً مَحْجُوراً وَالْعَفْوُ مِنَ اللَّه مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى، وَالْخَلَاصُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى، وَشَفَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَالْكَلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِصِيَغِ الْعُمُومِ قَدْ تَقَدَّمَ غير مرة، قال المفسرون المراد بالمجرمين هاهنا الْكُفَّارُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [الْمَائِدَةِ:
٧٢].
المسألة الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: حِجْراً مَحْجُوراً ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْمَصَادِرِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهَا نَحْوُ مَعَاذَ اللَّه وَقِعْدَكَ [اللَّه] «٢» وَعَمْرَكَ [اللَّه]، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوٍّ [مَوْتُورٍ] أَوْ هُجُومِ نَازِلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الِاسْتِعَاذَةِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ (يَفْعَلُ) «٣» كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ حِجْرًا، وَهِيَ مِنْ حَجَرَهُ إِذَا مَنَعَهُ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيذَ طَالِبٌ مِنَ اللَّه أَنْ يَمْنَعَ الْمَكْرُوهَ فَلَا يَلْحَقُهُ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَسْأَلُ اللَّه أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مَنْعًا وَيَحْجُرَهُ حَجْرًا وَمَجِيئُهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ فَعْلٍ فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ تَصَرُّفٌ فِيهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَصَادِرِ فَمَا مَعْنَى وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مَحْجُورًا؟ قُلْنَا: جَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْحَجْرِ كَمَا قَالُوا (ذَبْلٌ ذَابِلٌ فَالذَّبْلُ) «٤» الْهَوَانُ وَمَوْتٌ مَائِتٌ وَحَرَامٌ مُحَرَّمٌ.
المسألة السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا مَنْ هُمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: القول الأول:
(٢) زيادة من الكشاف ٣/ ٨٨ ط. دار الفكر.
(٣) في الكشاف (أتفعل).
(٤) في الكشاف (ذيل ذائل والذيل).
أَنَّهُمْ هُمُ الْكُفَّارُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَيَقْتَرِحُونَهُ، (ثُمَّ) «١» إِذَا رَأَوْهُمْ عِنْدَ الموت (و) «٢» يوم الْقِيَامَةِ كَرِهُوا لِقَاءَهُمْ وَفَزِعُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَهُمْ إِلَّا بِمَا يَكْرَهُونَ، فَقَالُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ [الْمَوْتُورِ] «٣» وَنُزُولِ الشِّدَّةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِلِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمَعْنَاهُ حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَيْكُمُ الْغُفْرَانُ وَالْجَنَّةُ وَالْبُشْرَى، أَيْ جَعَلَ اللَّه ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالَتِ الْحَفَظَةُ لَهُمْ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَيَقُولُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حِجْرًا مَحْجُورًا، وَقَالَ عَطِيَّةُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَلْقَى الْمَلَائِكَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبُشْرَى فَإِذَا رَأَى الْكُفَّارُ ذَلِكَ قَالُوا لَهُمْ بَشِّرُونَا فَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ وَالْوَاحِدِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا شَاهَدُوا مَا يَخَافُونَهُ فَيَتَعَوَّذُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَا يُعَاذُ مِنْ شَرِّ هَذَا الْيَوْمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدِمْنا فَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: وَقَدِمْنا لِأَنَّ الْقُدُومَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْأَجْسَامِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقُدُومَ حَرَكَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِالْحَرَكَةِ مُحْدَثٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُفُولِ الْكَوَاكِبِ عَلَى حُدُوثِهَا وَثَبَتَ أَنَّ اللَّه عَزَّ/ وَجَلَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، فَوَجَبَ تَأْوِيلُ لَفْظِ الْقُدُومِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أَيْ وَقَصَدْنَا إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ الْقَادِمَ إِلَى الشَّيْءِ قَاصِدٌ لَهُ، فَالْقَصْدُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْمَقْدُومِ إِلَيْهِ وَأَطْلَقَ الْمُسَبَّبَ عَلَى السَّبَبِ مَجَازًا وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ قُدُومُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا كَانُوا بِأَمْرِهِ يَقْدَمُونَ جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَقَدِمْنا عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزُّخْرُفِ: ٥٥] وَثَالِثُهَا: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها [النَّمْلِ: ٣٤] فَلَمَّا أَبَادَ اللَّه أَعْمَالَهُمْ وَأَفْسَدَهَا بِالْكُلِّيَّةِ صَارَتْ شَبِيهَةً بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا الْمَلِكُ فَلَا جَرَمَ قَالَ وَقَدِمْنا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ يَعْنِي الْأَعْمَالَ الَّتِي اعْتَقَدُوهَا بِرًّا وَظَنُّوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ أَيِّ عَمَلٍ كَانَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فَالْمُرَادُ أَبْطَلْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّورِ: ٣٩] كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ
[إِبْرَاهِيمَ:
١٨] كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الْفِيلِ: ٥] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الْهَبَاءُ مِثْلُ الْغُبَارِ يَدْخُلُ مِنَ الْكُوَّةِ مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهُ الْغُبَارُ الَّذِي يَسْتَطِيرُ مِنْ حَوَافِرِ الدَّوَابِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي الْخَسَارِ الْكُلِّيِّ وَالْخَيْبَةِ التَّامَّةِ شَرَحَ وَصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحَظَّ كُلَّ الحظ في طاعة اللَّه تعالى، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَيْرًا مُسْتَقِرًّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَا خَيْرَ فِي النار، ولا يقال في العسل هو
(٢) في الكشاف (أو).
(٣) زيادة من الكشاف.