آيات من القرآن الكريم

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ

فكيف تكون بِدْعاً منهم؟! فان قيل: لم كسرت «إنّهم» ها هنا، وفتحت في براءة في قوله تعالى: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ «١» فقد بيّنّا عِلَّة فتح تلك فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين:
أحدهما: أن تكون فيها واو للحال مضمرة، فكسرت بعدها «إِنّ» للاستئناف، فيكون التقدير: إلّا وإنّهم ليأكلون الطعام، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ «٢»، والتأويل، أو وهم قائلون. والثاني: أن تكون كُسرت لإِضمار «مَنْ» قبلها، فيكون التقدير: وما أرسلنا قبلكَ من المرسَلين إِلا مَنْ إِنهم ليأكلون، قال الشاعر:

فظلُّوا ومنهم دَمْعُه سَابق له وآخَرُ يَثني دَمْعَة العَيْنِ بالمَهْلِ «٣»
أراد: مَن دمعُه.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الفتنة: الابتلاء والاختبار. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه افتتان الفقير بالغنيّ، يقول: لو شاء لجعلني غنيّاً، والأعمى بالبصير، والسقيم بالصحيح، قاله الحسن. والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فاذا أراد الشريف أن يُسْلِم فرأى الوضيع قد سبقه بالإِسلام أنف فأقام على كفره، قاله ابن السائب. والثالث: أن المستهزئين من قريش كانوا إِذا رأوا فقراء المؤمنين، قالوا: انظروا إِلى أتباع محمد من موالينا ورُذالتنا، قاله مقاتل.
فعلى الأول: يكون الخطاب بقوله: أَتَصْبِرُونَ لأهل البلاء. وعلى الثاني: للرؤساء، فيكون المعنى:
أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث: للفقراء والمعنى: أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم، فالمعنى: قد علمتم ما وُعِد الصابرون، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر وبمن يجزع.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يخافون البعث لَوْلا أي: هلاّ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فكانوا رُسلاً إِلينا وأخبرونا بصدقك، أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا أنَّكَ رسوله، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: تكبَّروا حين سألوا هذه الآيات وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قال الزجاج: العُتُوُّ في اللغة: مجاوزة القَدْرِ في الظُّلم. قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ فيه قولان: أحدهما: عند الموت. والثاني: يوم القيامة. قال الزجاج: وانتصب اليوم على معنى: لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة، و «يومَئِذٍ» مؤكِّد ل «يومَ يَرَوْنَ الملائكةَ» والمعنى أنهم يُمنَعون البُشرى في ذلك اليوم ويجوز أن يكون «يومَ» منصوباً على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم أخبر فقال: لا بُشْرى والمجرمون ها هنا: الكفار.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وقرأ قتادة، والضّحّاك، ومعاذ القارئ: «حُجْراً» بضم الحاء.
قال الزجاج: وأصل الحجْر في اللغة: ما حجرتَ عليه، أي: منعتَ من أن يوصل إليه، ومنه حجر
(١) التوبة: ٥٤.
(٢) الأعراف: ٤.
(٣) البيت لذي الرمّة كما في ديوانه ص ٥٧٠.

صفحة رقم 316

القضاة على الأيتام. وفي القائلين لهذا قولان «١» : أحدهما: أنهم الملائكة يقولون للكفار: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرّماً. وفيما حرَّموه عليهم قولان: أحدهما: البُشرى، فالمعنى: حرام محرَّم أن تكون لكم البشرى، قاله الضحاك، والفراء وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أن تدخلوا الجنة، قاله مجاهد. والثاني: أنه قول المشركين إِذا عاينوا العذاب، ومعناه الاستعاذة من الملائكة، روي عن مجاهد أيضاً. وقال ابن فارس: كان الرَّجل إِذا لقيَ مَن يخافه في الشهر الحرام، قال: حجرا محجورا أي: حرام عليكَ أذايَ، فاذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة، قالوا: حِجْراً محجوراً، يظنُّون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.
قوله تعالى: وَقَدِمْنا قال ابن قتيبه: أي: قَصَدْنا وعَمَدْنا، والأصل أنَّ من اراد القُدوم إِلى موضع عَمَد له وقصده. قوله تعالى: إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي: من أعمال الخير فَجَعَلْناهُ هَباءً لأن العمل لا يُتقبَّل مع الشِّرك. وفي الهباء خمسة أقوال «٢» : أحدها: أنه ما رأيتَه يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوّة مثل الغبار، قاله عليّ رضي الله عنه، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، واللغويون والمعنى أنَّ الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء. والثاني: أنه الماء المُهراق، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس. والرابع: أنه الشَّرر الذي يطير من النار إِذا أُضرمت، فاذا وقع لم يكن شيئاً، رواه عطيَّة عن ابن عباس. والخامس: أنه ما يسطع من حوافر الدَّواب، قاله مقاتل. والمنثور: المتفرِّق.
قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أفضل منزلاً من المشركين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال الزجاج: المَقيل: المُقام وقت القائلة، وهو النوم نصف النهار. وقال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إِذا اشتد الحرّ وإِن لم يكن مع ذلك نوم. وقال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يَقِيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٧٨: يقول تعالى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا بتصديق محمد الملائكة، فلا بشرى لهم بخير وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك لأن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام.
ووافقه ابن كثير رحمه الله ٣/ ٣٩٠.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٩١: وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذ إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشرّ فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ.

صفحة رقم 317
زاد المسير في علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
تحقيق
عبد الرزاق المهدي
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
سنة النشر
1422
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية