آيات من القرآن الكريم

لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ

عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ مِنَ الْوَعْدِ بِإِيتَائِهِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ بَلْ هُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِأَنَّ حَظَّ الرَّسُولِ عِنْدَ رَبِّهِ لَيْسَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي الْحَقِيرِ وَلَكِنَّهُ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ الْخَالِدَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، أَيْ أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَمُقْنِعٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ بِالسَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا فَهُمْ مُتَمَادُونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ لَا تُقْنِعُهُمُ الْحُجَجُ.
وَالسَّاعَةُ: اسْمٌ غَلَبَ عَلَى عَالَمِ الْخُلُودِ، تَسْمِيَةً بِاسْمِ مَبْدَئِهِ وَهُوَ سَاعَةُ الْبَعْثِ. وَإِنَّمَا قَصَرَ تَكْذِيبَهُمْ عَلَى السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ فَهُمْ بِمَا وَرَاءَهُ أَحْرَى تَكْذِيبًا.
وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً مُعْتَرِضَةٌ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ، وَهُوَ لِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَمِنْ غَرَضِهِ مُقَابَلَةُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَاقِبَةِ بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالسَّعِيرُ: الِالْتِهَابُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَسْعُورٌ، أَيْ زِيدَ فِيهَا الْوَقُودُ، وَهُوَ مُعَامَلٌ مُعَامَلَةَ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ اللَّهَبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧]. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَات سعير.
[١٢- ١٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
تَخَلَّصَ مِنَ الْيَأْسِ مِنِ اقْتِنَاعِهِمْ إِلَى وَصْفِ السَّعِيرِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ، وَأُجْرِيَ عَلَى السَّعِيرِ ضَمِيرُ رَأَتْهُمْ بِالتَّأْنِيثِ لِتَأْوِيلِ السَّعِيرِ بِجَهَنَّمَ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى النَّارِ اسْتِعَارَةٌ وَالْمَعْنَى: إِذَا سِيقُوا إِلَيْهَا فَكَانُوا مِنَ النَّارِ بِمَكَانٍ مَا يَرَى الرَّائِي مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا مِنْ مَكَانٍ

صفحة رقم 332

بَعِيدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى:
رَأَتْهُمْ رَآهُمْ مَلَائِكَتُهَا أَطْلَقُوا مَنَافِذَهَا فَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهَا بِأَصْوَاتِ اللَّهِيبِ كَأَصْوَاتِ الْمُتَغَيِّظِ وَزَفِيرِهِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى جَهَنَّمَ مَجَازًا عَقْلِيًّا.
وَالتَّغَيُّظُ: شِدَّةُ الْغَيْظِ. وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١٩]. فَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ هُنَا الْمَوْضُوعَةُ فِي الْأَصْلِ لِتَكَلُّفِ الْفِعْلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي قُوَّتِهِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّفَ لِفِعْلٍ يَأْتِي بِهِ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا صَوْتُ الْمُتَغَيِّظِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ: سَمِعُوا فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَالزَّفِيرُ: امْتِدَادُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَضِيقِ الصَّدْرِ، أَيْ صَوْتًا كَالزَّفِيرِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَلَقَ لِجَهَنَّمَ إِدْرَاكًا لِلْمَرْئِيَّاتِ بِحَيْثُ تَشْتَدُّ أَحْوَالُهَا عِنْدَ انْطِبَاعِ الْمَرْئِيَّاتِ فِيهَا فَتَضْطَرِبُ وَتَفِيضُ وَتَتَهَيَّأُ لِالْتِهَامِ بَعْثِهَا فَتَحْصُلُ مِنْهَا أَصْوَاتُ التَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ حَقِيقَةً، وَأُمُورُ الْعَالَمِ الْأُخْرَى لَا تُقَاسُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: ٣٠]،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الصَّيْفِ وَنَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ» رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» : زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَمَا تَرَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَذَلِكَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا وَمَا تَرَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَهُوَ مِنْ سَمُومِهَا»
. وَجُعِلَ إِزْجَاؤُهُمْ إِلَى النَّارِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ زِيَادَة فِي الْكِنَايَة بِهِمْ لِأَنَّ بُعْدَ الْمَكَانِ يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ إِلَى الْوُصُولِ وَيَقْتَضِي طُولَ الرُّعْبِ مِمَّا سَمِعُوا.
وَوَصَفَ وُصُولَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَوَضْعَهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً فَصِيغَ نَظْمُهُ فِي صُورَةِ تَوْصِيفِ ضَجِيجِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، وَأَدْمَجَ فِي خِلَالِ

صفحة رقم 333
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية