وقد بينا أن الشافعي ومثله الليث والأوزاعي قالوا: ترد شهادة القاذف بالقذف نفسه، وإن لم يحد لأنه بالقذف يفسق لأنه من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
ويرى أبو حنيفة ومالك أنه لا ترد شهادة القاذف إلا بعد جلده وصيرورته محدودا في القذف، للحديث المتقدم الذي رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف».
١٤- لا تكفي التوبة الشخصية أو القلبية لإعادة اعتبار القاذف وقبول شهادته لأن الأمر متعلق بحق الغير وهو المقذوف، بل لا بد من إعلانها، لذا قال تعالى: وَأَصْلَحُوا أي بإظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل، لكن هذا لا يناسب هنا.
الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
الإعراب:
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل مرفوع من شُهَداءُ وهم: اسم كان، ولَهُمْ خبرها.
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ شهادة: إما مبتدأ وخبره إما أربع أو محذوف تقديره:
فعليهم شهادة أحدهم، وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالحكم شهادة أحدهم أربع شهادات.
وأَرْبَعُ خبر المبتدأ: فَشَهادَةُ ويكون بِاللَّهِ متعلقا ب شَهاداتٍ. وعلى قراءة النصب يكون منصوبا على المصدر، والعامل فيه شهادة لأنها في تقدير (أن) والفعل، أي أن يشهد أربع شهادات بالله.
وَالْخامِسَةُ إما مبتدأ وما بعده خبر، وإما معطوف بالرفع على أَرْبَعُ. وعلى قراءة النصب إما صفة مصدر مقدر أي أن تشهد الشهادة الخامسة، أو معطوف على أَرْبَعُ شَهاداتٍ.
وأَنَّ لَعْنَتَ: منصوب بتقدير حذف حرف جر، أي وتشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه.
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ أن وصلتها في موضع رفع، أي ويدرأ عنها العذاب شهادتها.
وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في موضع نصب ب تَشْهَدَ.
وَالْخامِسَةُ معطوف على أَرْبَعُ وبالرفع: مبتدأ وما بعده خبر.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: لم يذكر جوابإيجازا واختصارا لدلالة الكلام عليه، أي لعاجلكم بالعقوبة، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة.
البلاغة:
تَوَّابٌ حَكِيمٌ صيغة مبالغة على وزن: فعّال، وفعيل.
الصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بينهما طباق.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ.. حذف الجواب للتهويل والزجر، ليكون أبلغ في البيان.
المفردات اللغوية:
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يقذفونهن بتهمة الزنى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وقع ذلك لجماعة من الصحابة، وهو هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رمى به زوجته من الزنى لَعْنَتَ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله، وهذا لعان الرجل، وحكمه: سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينه وبين زوجته بنفس اللعان فرقة فسخ عند الشافعية
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن ابن عمر: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا»
وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة،
ومن أحكامه أيضا: نفي الولد إن تعرّض له فيه، وثبوت حد الزنى على المرأة لقوله تعالى:
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي ويدفع عنها الحد: حد الزنى الذي ثبت بشهادته.
لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنى غَضَبَ اللَّهِ سخطه وتعذيبه فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالستر في ذلك تَوَّابٌ يقبل التوبة في ذلك وغيره حَكِيمٌ فيما حكم به في ذلك وغيره. وجوابتقديره: لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها.
سبب النزول:
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء «١»، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق، يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك».
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزل الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، فأنزل الله عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وأخرجه أحمد بلفظ: لما نزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟
قالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط، فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.
فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا «٢» مع رجل لم يكن لي أن أنحيّه ولا أحركه، حتى
(٢) امرأة لكاع: لئيمة وقيل: ذليلة النفس.
آتي بأربعة شهداء، فو الله لا آتي بهم، حتى يقضي حاجته.
قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه، فوجد عند اهله رجلا، فرأى بعينه، وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال له: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه.
واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلا أن يضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في الناس.
فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يضربه، فأنزل الله عليه الوحي، فأمسكوا عنه، حتى فرغ من الوحي، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية. وأخرج أبو يعلى مثل هذه الرواية من حديث أنس.
وفي رواية: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات، وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة! والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني» ؟!
وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: اسأل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، فقتله، أيقتل به، أم كيف يصنع به؟
فسأله عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم السائل، فلقيه عويمر «١»، فقال: ما صنعت؟ قال: ما صنعت؟ إنك لم تأتني بخبر، سألت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب السائل، فقال عويمر: فو الله لآتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلأسألنه، فسأله، فقال: إنه أنزل فيك وفي صاحبك.. الحديث.
أي فيمن وقع له مثل ما وقع لك.
قال الحافظ ابن حجر: اختلف الأئمة في هذه المواضيع، فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما. وإلى هذا جنح النووي، وتبعه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد.
قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
وقال القرطبي: والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية.
وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة. قال السهيلي: وهو الصحيح. وقال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني لكثرة ما
روي ان النبي صلّى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته.
والمهم أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور:
أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها.
وثانيها: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أنها تشمل الأجنبية والزوجة على السواء.
وثالثها: أن هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير الزوجات بالزنى، بيّن الله تعالى حكم قذف الزوجات الذي هو في حكم الاستثناء من الآية المتقدمة، تخفيفا عن الزوج لأن العار يلحقه، ومن الصعب أن يجد بيّنة، وفي تكليفه إحضار الشهود إحراج له، ويعذر بالغيرة على أهله، وأيضا فإن الغالب أن الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا صادقا، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه.
التفسير والبيان:
فرّج الله تعالى بهذه الآية عن الأزواج وأوجد لهم المخرج إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البينة، وهو أن يحضرها إلى الحاكم، فيدعي عليها بما رماها به، فيلاعنها كما أمر الله عز وجل، بأن يحلفه الحاكم أربع شهادات بالله، في مقابلة أربعة شهداء، إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنى، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود يشهدون بصحة قذفهم، وإنما كانوا هم الشهود فقط، فالواجب عليهم أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن:
الطرد من رحمة الله.
فإذا قال ذلك بانت منه بهذا اللعان نفسه عند جمهور العلماء غير الحنفية، وحرمت عليه أبدا، ويعطيها مهرها، ويسقط عنه حد القذف، وينفي الولد عنه إن وجد، ويتوجه عليها حد الزنى.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي ويدفع عنها حد الزنى أن تحلف بالله أربعة أيمان: إن زوجها كاذب فيما رماها به
من الفاحشة، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما يقول.
وسبب التفرقة بينهما بتخصيصه باللعنة، وتخصيصها بالغضب هو التغليظ عليها لأنها سبب الفجور ومنبعه، بإطماعها الرجل في نفسها.
ثم بيّن الله تعالى ما تفضل به على عباده من الفضل والنعمة والرحمة بهذا التشريع إذ جعل اللعان للزوج طريقا لتحقيق مراده. وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها، فقال:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي ولولا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته وإحسانه ورحمته ولطفه ورأفته من تشريع ما به فرج ومخرج من الشدة والضيق، وتمكين من قبول التوبة، لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من أموركم، ولفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم، وأنقذكم من الورطة باللعان، فمن صفاته الذاتية أنه كتب الرحمة على نفسه، وأنه التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة، وأنه حكيم فيما يشرعه، ويأمر به، وينهى عنه، فإنه بالرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه، يدرأ عنه العقاب الدنيوي وهو الحد، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبر بقوله: حَكِيمٌ لا رحيم مع أن الرحمة تناسب التوبة لأن الله أراد الستر على عباده بتشريع اللعان بين الزوجين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على مشروعية حكم اللعان بين الزوجين، وكيفية اللعان، ولا بدّ من توضيح الأحكام التالية التي أصّلها الفقهاء بنحو جلي:
١- آيات اللعان وآية القذف:
جاء ذكر آيات اللعان بعد آية قذف المحصنات غير الزوجات، فرأى علماء الأصول من الحنفية أن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها، فيكون قذف الزوجة منسوخا إلى بدل وهو اللعان.
وذهب الأئمة الآخرون إلى أن آيات اللعان مخصصة لعموم آية القذف، فتكون هذه الآية مختصة بالمحصنات غير الزوجات، وآيات اللعان خاصة بالزوجات، ويكون موجب قذف المحصنة الحدّ فقط، ثم استثني من ذلك الزوجة، فيكون موجب قذفها الحد أو اللعان.
٢- وحكمة اللعان:
كما بينا التخفيف على الأزواج الذين لا يتيسر لهم إثبات زنى زوجاتهم بأربعة شهود.
٣- هل ألفاظ اللعان شهادات أم أيمان؟:
يرى الحنفية أن ألفاظ اللعان شهادات لظاهر الآيات التي ذكر فيها لفظ الشهادة خمس مرات وهي: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي ليس لهم بينة، ثم قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي بينته المشروعة في حقه، ثم قال: أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ ثم قال: أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وهذه المواضع الثلاثة هي أخبار مؤكدة بالشهادة، ورتبوا على ذلك أنه يشترط في المتلاعنين أهلية الشهادة.
وذهب الجمهور إلى أن ألفاظ اللعان أيمان، لا شهادات لأن قوله تعالى:
أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ قسم أو أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة، كما قال تعالى:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون ٦٣/ ١] ثم قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ [٢].
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» «١».
ورتبوا على ذلك أنه لا يشترط في المتلاعنين إلا أهلية اليمين.
قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره، هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر «١».
والحكمة في تكرار الشهادات التغليظ والتشدد في أمر خطير يترتب عليه الحد والتشنيع وفسخ الزواج ونفي الولد إن وجد والتحريم المؤبد.
٤- شروط المتلاعنين:
ترتب عند العلماء على الخلاف في ألفاظ اللعان:
شهادات أو أيمان اختلافهم في أوصاف المتلاعنين أو شروطهم، فاشترط الحنفية والأوزاعي والثوري في الزوج الملاعن أن يكون أهلا للشهادة على المسلم، وفي الزوجة أيضا أن تكون أهلا للشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين لأن اللعان عندهم شهادة، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا أو حرية ورقا.
وأدلتهم قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وأن كلمات اللعان من الزوج شهادات مؤكدات بأيمان، وهي بدل من الشهود، ولأن لعان الزوجة معارضة للعان الزوج. وأما كونها ممن يحد قاذفها فلأن اللعان بدل عن الحد في قذف الأجنبية.
وروى ابن عبد البر عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين».
وروى الدارقطني عن ابن عمرو أيضا مرفوعا: «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان».
وذهب الجمهور إلى أن اللعان يصح من كل زوجين: مسلمين أو كافرين، عدلين أو فاسقين، محدودين في قذف أو غير محدودين، حرين أو عبدين
لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم سمى اللعان يمينا، فقال لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولد شبيه بشريك بن سحماء:
«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن».
٥- وترتب على الخلاف السابق أيضا الاختلاف في ملاعنة الأخرس
، فقال الجمهور: يلاعن لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة.
٦- إذا قذف الرجل زوجته بعد الطلاق
، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه، لاعن، وإلا لم يلاعن.
ولا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا، فتأتي امرأته بولد في مغيبه، وهو لا يعلم، فيطلّقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه، فله أن يلاعنها بعد العدة، ولو بعد وفاتها، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. ولو مات الزوج قبل اللعان ترث عند الحنفية.
وإذا كانت المرأة حاملا لاعن عند الجمهور قبل الوضع،
لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لا عن قبل الوضع، وقال: «إن جاءت به كذا فهو لأبيه، وإن جاءت به كذا فهو لفلان».
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لاحتمال كون الانتفاخ بسبب ريح أو داء.
وإذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن عند الجمهور لأنه دخل تحت عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأن اللواط عنده لا يوجب الحد.
٧- إذا قذف زوجته ثم زنت
وثبت الزنى قبل التعانه، فلا حدّ على القاذف ولا لعان في رأي أكثر أهل العلم، لظهور أمر قبل استيفاء الحد واللعان
يمنع وجوب الحد وصحة اللعان. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحدّ عن القاذف لأن المقذوف كان محصنا في حال القذف، ويعتبر الإحصان والعفة حال القذف لا بعده.
ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، فالزوج يلاعن لدفع الحد عنه، والزوجة لدرء العقاب وهو حد الزنى. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدرء الحد، ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء.
٨- إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى، أحدهم زوجها
، فإن الزوج في رأي المالكية يلاعن وتحدّ الشهود الثلاثة إذ لا يصح أن يكون أحد الشهود. وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة، قبلت شهادتهم، وحدّت المرأة.
٩- إذا أبى الزوج اللعان
، فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر. وقال الجمهور: إن لم يلاعن الزوج حدّ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهود حدّ، فكذلك الزوج إن لم يلاعن.
وإذا امتنعت الزوجة من اللعان ترجم في رأي الجمهور. ولا ترجم عند الحنفية.
١٠- كيفية اللعان:
بعد نزول آيات اللعان
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدعوة عويمر العجلاني وزوجته وشريك بن سحماء، وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله، أقسم بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنها حبلى من غيري.
فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت:
يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور، وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي، ويتحدث، فحملته الغيرة على ما قال.
فنودي «الصلاة جامعة» فصلى العصر، ثم قال لعويمر: قم وقل: أشهد بالله، إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها حبلى من غيري، وإني من الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها زانية، وإني ما قربتها منذ أربعة شهور، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: لعنة الله على عويمر (أي نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال: اقعد.
وقال لخولة: قومي، فقامت، وقالت: أشهد بالله، ما أنا بزانية، وإن عويمرا زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: إني حبلى منه، وقالت في الرابعة: أشهد بالله، إنه ما رآني على فاحشة قط، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما.
وفي رواية أخرى لابن عباس عند الإمام أحمد: «فلما كانت الخامسة، قيل له: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى
ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحد، وقضى ألا بيت لها عليه، ولا قوت لها، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقال: «إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فهو الذي رميت به» فجاءت به على النعت المكروه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن».
يفهم من الآية وهذه الحادثة كيفية اللعان، وهو أن يقول الحاكم للملاعن:
قل أربع مرات: أشهد بالله، إني لمن الصادقين، وفي المرة الخامسة، قل: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
وتشهد المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ويكتفى بدلالة الحال والقرائن عن ذكر متعلق الصدق والكذب، أي فيما رماها به من الزنى ونفي الولد، وفيما اتهمها به.
ولا بد من الحلف خمس مرات من كل منهما، ولا يقبل من الزوج إبدال اللعنة بالغضب، ولا يقبل من الزوجة إبدال الغضب باللعنة.
وظاهر الآية وهو مذهب الجمهور البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد عنه، ونفي النسب منه
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة وإلا حدّ في ظهرك»
ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: يجزئ إن بدأت هي بلعانها. وسبب الخلاف: أن الجمهور يرون أن لعان الزوج موجب للحد على الزوجة، ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من المعقول أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها، فلا حاجة لأن يتأخر لعانها عن لعانه.
وإذا كانت المرأة حاملا، وأراد الزوج نفي الحمل عنه قال: وأن هذا الحمل ليس مني، وهذا رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا لعان لنفي الحمل، وينتظر حتى تضع، فيلاعن لنفيه.
وإذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه، تعرض له في اللعان.
ويقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد. ويعظهما القاضي أو نائبه عند ابتداء اللعان وقبل الخامسة من الشهادات، بأن يذكرهما ويخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا.
ويحضر اللعان جمع من عدول المسلمين.
١١- آثار اللعان وما يترتب عليه: يترتب على اللعان:
أولا-
إسقاط حد القذف عن الزوج، وإيجاب حد الزنى على الزوجة لأن الله تعالى قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ والشهادة من الأجنبي تسقط حد القذف عن القاذف، وتوجب حد الزنى على المقذوف، والله تعالى أقام شهادة الزوج مقام شهادة الأجنبي. ثم قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ والمراد منه عذاب الدنيا لأن (أل) للعهد المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي عذاب حد الزنى، ولا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة لأن لعان الزوجة إن كانت كاذبة لا يزيدها إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا. ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلم لخولة بنت قيس: «الرجم أهون عليك من غضب الله»
فقد فسر صلّى الله عليه وسلم العذاب المدروء عنها بالرجم.
وأصرح من ذلك
قوله لخولة قبل الشهادة الخامسة: «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة»
أي الحد، لا الحبس. وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته،
ولكن لعانه لا يوجب حد الزنى على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود، أو بالإقرار أربع مرات.
ويترتب على هذا الخلاف: حكم الممتنع عن اللعان من الزوجين، فعلى رأي الجمهور كما تقدم: إن امتنع الزوج من اللعان يحد لأن اللعان رخصة له، فلما أبى أن يلاعن، فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فصار حكمه وحكم غير الزوج سواء. وإن امتنعت الزوجة يقام عليها حد الزنى وهو الرجم إن كانت محصنة.
وعلى رأي الحنفية: إذا امتنع الزوج من اللعان، حبس حتى يلاعن، كما بينا لأن اللعان حق توجه عليه، يستوفيه الحاكم منه بالقهر والتعزير، فيكون له حبسه حتى يلاعن أو يكذب نفسه في القذف، فيقام عليه حده. ورأي الجمهور هو الصواب عملا بظاهر الآية.
ثانيا-
يترتب على اللعان أيضا نفي الولد، كما ثبت في حادثة هلال بن أمية.
ثالثا-
الفرقة بين المتلاعنين: قال مالك وأحمد: بتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل الزواج من زوج آخر ولا بعده، كما
ثبت في السنة الصحيحة، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا».
ورأى الشافعي أن الفرقة تحصل بمجرد لعان الزوج لأنها فرقة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوج إلا في دفع العذاب (حد الزنى) عن نفسها. واتفق الشافعي ومالك وأحمد على وقوع التحريم المؤبد بين المتلاعنين. وهذا هو الظاهر من الآيات.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقع الفرقة باللعان حتى يفرق الحاكم بينهما
لقول ابن عمر وابن عباس: «فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المتلاعنين»
فأضاف الفرقة إليه،
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا سبيل لك عليها».
وإن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب لقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء ٤/ ٣] وقوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء ٤/ ٢٤].
١٢- ما يحتاج إليه اللعان:
يحتاج اللعان إلى أربعة أشياء:
الأول- عدد الألفاظ وهو أربع شهادات، كما تقدم.
الثاني- المكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان: إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها.
الثالث- الوقت: وذلك بعد صلاة العصر.
الرابع- جمع الناس: بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا. فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.
١٣- إذا قذف الرجل مع زوجته أجنبيا:
فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحد للأجنبي.
وقال أحمد: عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء ذكر المقذوف في لعانه أم لا.
وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه، سقط الحدّ له، كما يسقط للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حدّ له.
ودليل أحمد والشافعي أنه صلّى الله عليه وسلم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سماه صريحا، وأن الزوج مضطر إلى قذف الزاني.