
ثم أكد الله تعالى الأمر بطاعة أوامر الله تعالى وحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم بإخلاص لا نفاق فيه، فإن تولوا عن الطاعة، فما على النبي صلّى الله عليه وسلم إلا تبليغ الرسالة، وما عليهم إلا الطاعة له، فإن أطاعوه اهتدوا إلى الحق، فجعل الاهتداء مقرونا بطاعته، ثم أكد أنه ما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا التبليغ الواضح الذي لا شائبة فيه لكل ما كلف فيه الناس، فهو لا يحمل أحدا على الإيمان الحق، ولا يكره إنسانا على الدين القويم.
قال بعض السلف: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
أصول دولة الإيمان
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
الإعراب:
وَعَدَ: وعد في الأصل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، ولهذا اقتصر في هذه الآية على مفعول واحد، وفسّر العدة بقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. وهو جواب قسم مضمر تقديره: وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم.

يَعْبُدُونَنِي جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ أو استئناف كلام جديد.
لا يُشْرِكُونَ حال من واو يَعْبُدُونَنِي.
البلاغة:
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً طباق بين الخوف والأمن.
المفردات اللغوية:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم والأمة لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في ممالكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ مبني للمعلوم، وقرئ مبنيا للمجهول الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من بني إسرائيل في مصر وفلسطين بدلا عن الجبابرة: فرعون وأمثاله وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت وإظهاره على جميع الأديان، فالتمكين: هو جعل هذا الدين ممكّنا في الأرض بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليجعلنهم بعد الخوف من الكفار في حالة أمن وسلام، وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقوا مستنفرين في السلاح صباح مساء، حتى أنجز الله وعده، فغلّبهم على العرب كلهم، وفتح لهم بلاد الشرق والغرب. وفيه دليل على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به، وعلى صحة خلافة الراشدين.
يَعْبُدُونَنِي حال من الَّذِينَ لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من واو يَعْبُدُونَنِي أي يعبدونني غير مشركين وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي ومن ارتد، أو كفر هذه النعمة بعد الوعد أو حصول الخلافة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة. وأول من كفر به قتلة عثمان رضي الله عنه، فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.. معطوف على قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ والفاصل وإن طال وعد على المأمور به، فيكون تكرارا للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لتأكيد وجوبها، وتعليق الرحمة بها، أي بالطاعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي راجين الرحمة.
لا تَحْسَبَنَّ الخطاب للرسول مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا تلحقهم قدرة الله على

الإهلاك، بأن يفوتوا منها، أي لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في الأرض وَمَأْواهُمُ النَّارُ ومرجعهم النار، وذلك معطوف من حيث المعنى على قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار، والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم. وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي، أو المأوى الذي يصيرون إليه.
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه، والطبراني عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: فينا نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
المناسبة:
بعد الكلام عن الطاعة وثمرتها: وهي أن من أطاع الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة، وعد الله سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض، وتأييدهم بالنصر والإعزاز، وإظهار دينهم على الدين كله، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون. ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وعد الله الذين تحقق فيهم وصفان معا هما الإيمان

بالله ورسوله والعمل الصالح الطيب الذي يقرب من الله تعالى ويرضيه بأن يجعل أمة النبي صلّى الله عليه وسلم خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، كما استخلف داود وسليمان عليهما السلام على الأرض، وكما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وقوله مِنْكُمْ من للبيان كالتي في آخر سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [٢٩].
وبما أن وعد الله صادق ومنجز، كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ [الزمر ٣٩/ ٢٠] فقد أنجز الله وعده، وأظهر المسلمين على جزيرة العرب، وافتتحوا بعدئذ بلاد المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة (حكام فارس) وملكوا خزائنهم، وفتحوا بلاد القياصرة (بلاد الروم) واستولوا على الدنيا، وظلت دولة الإسلام قوية منيعة في ظل خلافات متعاقبة: الخلافة الراشدية، ثم الخلافة الأموية في الشام والأندلس، ثم الخلافة العباسية، ثم الخلافة العثمانية إلى انتهاء الربع الأول من القرن العشرين (١٩٢٤) حيث ألغى أتاتورك الخلافة.
ففي عهده صلّى الله عليه وسلم فتحت مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن كلها. وأخذت الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وملك عمان.
وفي عهد الخلفاء الراشدين افتتحت بلاد كثيرة في الشرق والغرب وهي أكثر بلاد فارس والروم في العراق والشام ومصر وبعض بلاد شمال إفريقيا، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل كثير من الترك.
وفي العهد الأموي استمرت الفتوح الواسعة حتى شملت بلاد الأندلس والهند.
واستقر الحكم الإسلامي في العهد العباسي في مختلف أجزاء بلاد الإسلام.

وفي عهد الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس، وقبرص والقسطنطينية، وبلاد القيروان وسبتة مما يلي المحيط الأطلسي، وامتد الفتح إلى أقصى بلاد الصين.
وصدق
قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد: «إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
ونظير الآية قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال ٨/ ٢٦]، وقوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص ٢٨/ ٥- ٦].
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي وليجعلن دين الإسلام مكينا ثابتا في الأرض، عزيزا قويا منيعا، مرهوب الجانب في نظر أعدائه، منصورا على ملة الكفر.
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة- المرأة في الهودج- من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في

غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قالها.
وتحققت الثالثة في عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بشّر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب».
ثم بيّن حال هذه الأمة أثناء تمكنها في الأرض أو علة تمكينها في الأرض فقال:
يَعْبُدُونَنِي «١» لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أي إن هذه الأمة تعبد الله وحده لا شريك له، ولا يتغيرون من عبادة الله تعالى إلى الشرك، ووعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم.
روى الإمام أحمد والشيخان عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذبهم».
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي ومن ارتد أو كفر النعمة، كقوله تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل ١٦/ ١١٢]، أو خرج عن طاعة ربه وأمره، فأولئك هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة، وتناسوا فضل الله عليهم، وهذا ربما يصدر من بعض الأمة بدليل
حديث الصحيحين وغيرهما من الأئمة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة».

وبعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا للنعمة، وإحسانا إلى عباد الله الفقراء، مكررا للتأكيد الأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وأدوا الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، واعبدوا الله وحده لا شريك له، وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم لما فيها من الإحسان إلى الضعفاء والفقراء، وأطيعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أمركم به أو نهاكم عنه أو زجركم عنه، لعل الله يرحمكم بذلك، وينجيكم من عذاب أليم. ولا شك أن من فعل هذا سيرحمه الله، كما قال: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة ٩/ ٧١].
وأما المتنكرون لطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم فهم كما قال تعالى:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي لا تظنن أيها الرسول أن الذين خالفوك وكذبوك وكفروا برسالتك يعجزون الله ويفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب في الدنيا بألوان مختلفة فردية كالمرض والهم والقلق والانتحار، أو جماعية كالقتل في الحروب والزلازل والبراكين والحرق والغرق، ومأواهم في الآخرة نار جهنم، وبئس المآل مآل الكافرين، وبئس المرجع والقرار والمهاد. ومعجزين: معناه فائتين، والمصير: المرجع، كما بيّنا.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه هي أصول دولة الإيمان، تنبئ عن قواعد ومبادئ أهمها الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، وثمرتها أولا- إنجاز وعد الله بالعزة والسيادة في الأرض في الدنيا، ونصرة الإسلام على الكفر، وتمكين هذا الدين المرتضى وهو دين

الإسلام في الأرض، أي تثبيته وتوطيده وتأمينه وتأمين أهله وإزالة الخوف الذي كانوا عليه، وثانيا- الظفر برحمة الله في الآخرة.
ودلت الآيات على ما يلي «١» :
١- إثبات صفة الكلام لله عزّ وجلّ وأنه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام، ومن وصف بالنوع وصف بالجنس.
٢- الله تعالى حيّ قادر على جميع الممكنات لأنه قال: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وقد فعل ذلك كما بيّنا في التفسير السابق، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات.
٣- الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لقوله: يَعْبُدُونَنِي.
٤- إنه سبحانه منزه عن الشريك لقوله: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وذلك يدل على نفي الإله الآخر، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى، سواء كان كوكبا كما يقول الصابئة، أو صنما كما يقول عبدة الأوثان.
٥- صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب في قوله تعالى:
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. الآية، وقد تحقق الخبر المعجز، فدل على صدق المخبر وهو محمد صلّى الله عليه وسلم.
٦- العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان.
٧- إثبات خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، فالآية وَعَدَ اللَّهُ..
أوضح دليل وأبينه لأنهم المستخلفون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين

وعدهم الله بالاستخلاف بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، والاستخلاف: الإمامة فقط، وأما الذين من قبلهم فهم الخلفاء إما بالنبوة وإما بالإمامة والخلافة.
ولكن لا تختص الخلافة بهم، بل تشمل غيرهم ممن استخلفوا على المسلمين.
٨- إن من أتم النعم على الصحابة وتابعيهم بعد نصرة الإسلام هو تبديل خوفهم أمنا، كما وعد تعالى، وأكده رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا، ليس عليه حديدة»
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحة: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»
فالآية معجزة النبوة لأنها إخبار عما سيكون، فكان، كما بيّنا.
٩- إن أساس العمل الإسلامي عبادة الله بالإخلاص، دون أن يشوبها شرك ظاهر أو خفي وهو الرياء.
١٠- المراد بالكفران في قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ في رأي أكثر المفسرين كفران النعمة لأنه قال تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أما الكافر الحقيقي فهو فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
١١- إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه سبب للرحمة الشاملة من الله تعالى.
١٢- لن يعجز الله هربا في الأرض أحد من الكفار، وإنما قدرة الله تطولهم في أي مكان، وهم المقهورون، ومأواهم النار. قال صاحب الكشاف: النظم في قوله تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ لا يحتمل أن يكون متصلا بقوله: لا تَحْسَبَنَّ لأن ذلك نفي، وهذا إيجاب، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره:
لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض، بل هم مقهورون، ومأواهم النار.