المنَاسَبَة: لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل والحدانية والإيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الفرة في نهاية الظلمة
صفحة رقم 310
والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.
اللغَة: ﴿مِشْكَاةٍ﴾ المشكاة: الكُوَّة في الحائط غير النافذة، وأصلها لاوعاء يجعل فيه الشيء ﴿دُرِّيٌّ﴾ متلألئ وقّد يشبه الدر في صفائه ولمعانه ﴿سَرَابٍ﴾ السرابُ: ما يتراءى للعين وسط النهار عند اشتداد الحر يشبه الماء الجاري وليس بماء، سمي سراباً لأنه يسرب أي يجري كالماء قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم | كلمع سراب بالفلا متألق |
وما كادت إذا رفعت سناها | ليبصر ضوءها إلاّ البصير |
التفسِير: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾ أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى | نوراً ومن فلق الصباح عمودا |
بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال في التسهيل: المعنى صفةُ نور الله وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أحظم ما يتصوره البشر من الإضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾ أي في قنديل من الزجاج الصافي ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ أي تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة ﴿زَيْتُونَةٍ﴾ أي هي من شجر الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أي ليست في حهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول انهار لتكون ثمرتها أن ضح، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزينها ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ أي نور قوف نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ﴾ أي يبين لهم الأمثال تقريباً لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ﴾ أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾ وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أي تَوَقَّد هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء م صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.
ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾ أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وأن تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد
بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ أي بعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال﴾ أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء والمؤمنون قال ابن عباس: كلُّ تسبيح في القرآن فهو صلاة ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله﴾ أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يليهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله ﴿وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة﴾ أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها ﴿يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار﴾ أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناء وأبصارهم ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً ﴿وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم، ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعلمه والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض ﴿يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً﴾ أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً ﴿حتى إِذَا جَآءَهُ﴾ أي حتى إذا وصل إليه ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ أي لم ير ماءً ولا شراباًً، وإنما رآى سراباً فعظمت حسرته ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾ أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض ﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ أي هي ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخلة ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان
صفحة رقم 313الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ مقابل قوله في المؤمن ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!! ولما وصف سبحانه أنوار قلوب وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوها؟ ﴿والطير صَآفَّاتٍ﴾ أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب ﴿وإلى الله المصير﴾ أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهره كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً﴾ أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أي يجمعه بعد تفرقه ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ أي يجعله كثيفاً متراكماص بعضه فوق بعض ﴿فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ أي فترى المطر يخرج من بين السحاب الكثيف ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته ﴿وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ﴾ أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأ للخير والشر ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ أي يقرب ضوء برق السحاب ﴿يَذْهَبُ بالأبصار﴾ أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه ﴿يُقَلِّبُ الله الليل والنهار﴾ أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد ﴿إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً﴾ أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع ﴿لأُوْلِي الأبصار﴾ أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ﴾ استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع
صفحة رقم 314المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ﴾ أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ﴾ كالإِنسان والطير ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع ﴿يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ﴾ أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أو هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كا الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على لاسويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون ﴿لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾ أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي يرشد من يشاء من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام، ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال ﴿وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا﴾ أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله ﴿ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه ﴿مِّن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ أي وليس أولئك الذين يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أي وإذا دعوا إلى حكم حكم الله أو حكم رسوله ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول ﴿وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاءوا إلأى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحق لغيرهم؛ أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا على الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا﴾ أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:
ألستَ من القوم الذين تعاهدوا | على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر |
من الله للمنافقين وتأدب منه لآخرين ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي وأولئك المسارعون إلى مرضاة الله هم الفائزون بسعادة الدارين ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ومن يطع أمر الله وأمر رسوله في كل فعلٍ وعمل ﴿وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ﴾ أي ويخاف الله تعالى لما فرط منه الذنوب، ويمتثل أوامره ويجتنب زواجره ﴿فأولئك هُمُ الفآئزون﴾ أي هم السعداء الناجون من عذاب الله الفائزون برضوانه.. ذكر أن بعض بطارقة الروم سمع هذه الآية فأسلم وقال: إنها جمعت كل ما التوراة والإِنجيل.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - إطلاق المصدر على إسم الفاعل للمبالغة ﴿الله نُورُ السماوات﴾ بمعنى منوِّر لكل بحيث كأنه عين نوره قال الشريف الرضي: وفي الآية إستعارة - على تفسير بعض العلماء - والمراد عندهم أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه، ونواصع بيانه كما يهتدى بالأنوار الثاقبة والشهب اللامعة.
٢ - التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ شبَّه نور الله الذي وضعه في قلب عبده المؤمن بالمصباح الوهّاج في كوة داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن الخ سمي تمثيلياً لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وهو من روائع التشبيه.
٣ - الإِطناب بذكر الخاص بعد العام تنويهاً بشأنه ﴿عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة﴾ لأن الصلاة من ذكر الله.
٤ - جناس الاشتقاق ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب﴾.
٥ - التشبيه التمثيلي الرائع ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ الخ وكذلك في قوله ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ وهذا من روائع التشبيه وبدائع التمثيل.
٦ - الطباق بين ﴿يُصِيبُ.. وَيَصْرِفُهُ﴾.
٧ - الاستعارة اللطيفة ﴿يُقَلِّبُ الله الليل والنهار﴾ إذ ليس المراد التقليب المادي للأشياء الذاتية وإنما استعير لتعاقب الليل والنهار.
٨ - الجناس التام ﴿يَذْهَبُ بالأبصار﴾ ﴿لأُوْلِي الأبصار﴾ المراد بالأولى العيون وبالثانية الألباب.
لطيفَة: سمع بعض علماء الطبيعة من غير المسلمين هذه الآية ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ..﴾ الآية فسأل هل ركب محمد البحر؟ فقالوا: لا فقال أشهد أنه رسول الله قالوا: وكيف عرفت؟ فقال: إنَّ هذا الوصف للبحر لا يعرفه إلا من عاش عمره في البحار، ورأى الأهوال والأخطار، فلما أخبرت أنه لم يركب البحر عرفت أنه كلام الله تعالى.