
لحسان، فضربه ضربة بالسيف فكف بصره. وَالْآخِرَةِ من عذاب القبر وعذاب النار، ومما يعلمه الله تعالى، فالحدود جوابر للذنب المحدود به، كالقذف. وأما ذنب الأقدام فلا يكفره إلا التوبة وعذاب الآخرة لعبد الله بن أبيّ خاصة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور، ومن جملتها محبة ظهور الفاحشة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) ما يعلمه الله تعالى، لأن محبة القلب كامنة، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء وإن بالغ العبد في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم ذلك منه، ويعلم قدر الجزاء منه، أما نحن فلا نعلم محبة القلب إلا بالأمارات وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بكم وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) لهلكتم
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفاحشة في المؤمنين وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي ومن يتبع طرق تزيين الشيطان فقد فعل القبيح، وما لا يعرف في شريعة، ولا في سنة، لأن عادته يأمر بهما. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب، وبشرع الحدود المكفّرة لها، ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً أي ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب إلى آخر الدهر. فإن العصبة قد تابوا وطهروا غير عبد الله بن أبي فإنه استمر على الشقاوة حتى مات.
وقرأ يعقوب وابن محيصن «ما زكّى» بتشديد الكاف أي ما طهر الله تعالى أحدا من أولئك العصبة من تلك الذنوب أبدا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يطهره من الذنوب بحمله على التوبة وبقبولها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما أظهروه من التوبة، ولأقوالكم في القذف، وفي إثبات البراءة لعائشة، عَلِيمٌ (٢١) بإخلاصكم في التوبة وبمحبة إشاعة الفاحشة وبكراهيتها. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا يقصر أولو الفضل في الدين والسعة في المال في أن يحسنوا إليهم- كذا قاله أبو مسلم، كما يروى عن أبي عبيدة- والمعنى عند أكثر المفسرين: ولا يحلف أولو الفضل منكم في الدين والبذل، والغنى بالمال على أن لا ينفقوا عليهم وعلى أن لا يعطوهم. وقرأ الحسن «ولا يتأل»، وَلْيَعْفُوا أي وليتجاوزوا عن الخائضين في الإفك بالظاهر، وَلْيَصْفَحُوا أي ليعرضوا عن لومهم بالقلب بأن يتناسوا جرمهم. وقرئ الأفعال الثلاثة بتاء الخطاب. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢).
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح- وهو ابن خالته- وكان من فقراء المهاجرين وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه، وأن لا ينفق على ذوي قرابته لما خاضوا في أمر عائشة، فلما نزلت الآيات التي أبرأت عائشة من الإفك قال لهم أبو بكر: قوموا فلستم مني ولست منكم، ولا يدخلن أحد منكم علي. فقال مسطح: ننشدك الله والإسلام والقرابة أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب وإنما كنت أغشى

مجلس حسان، وأسمع ولا أقول. فقال لمسطح: إن لم تتكلم فقد ضحكت وشاركت فيما قيل فقال: قد كان ذلك تعجبا من قول حسان، فلم يقبل عذره وقال: انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون، وأين يتوجهون من الأرض. وبعض الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر، وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» قال: بلى يا رب، إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته، وأرسل إلى مسطح وأصحابه وقال: قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، فرجع إلى مسطح نفقته، وحلف أن لا ينزعها منه أبدا وألطف بقرابته وأحسن إليهم وهذا من أعظم أنواع المجاهدات، فإن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة الكفار. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي العفائف من الفاحشة الْغافِلاتِ أي النقيات القلوب الْمُؤْمِناتِ أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا وهن أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي عذبوا في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) وهو عذاب الكفر، فإن كان القذفة مؤمنين فذلك الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، وضرب الحد. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) فإن الله تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها، يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي يعطيهم الله جزاء عملهم المقطوع بحصوله لهم، وَيَعْلَمُونَ عند معاينتهم الأهوال أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) أي الثابت في ذاته وصفاته، وكلماته المنبئة عن الشؤون التي يشاهدونها، المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ أي النساء الخبيثات مختصات بالرجال الخبيثين. وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ أي والخبيثون لائقون بالنساء الخبيثات ويقال: المقالات الخبيثة من القذف مختصة بالخبيثين من أهل الإفك من الرجال والنساء.
ويقال: المقالات الخبيثة من اللعن والذم ونحو ذلك مختصة بهم وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي والنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس. أو المعنى: والكلمات الطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال والنساء. ويقال: والطيبون من الفريقين لائقون بالكلمات الحسنة، وحيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب الطيبين وأفضل الأولين والآخرين، تبين كون زوجاته أطيب الطيبات بالضرورة. أُولئِكَ أي أهل البيت مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات. فالله تعالى برأ أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأكاذيب الباطلة لكيلا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة، ونزه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمثال هذا الأمر، فلا أحد أطهر منه فأزواجه إذا لا يجوز أن يكنّ إلا طيبات. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي براءة من الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)

في الآخرة. وهذه الجملة خبر ثان لأولئك ويجوز أن يكون لهم خبر أولئك ومغفرة فاعله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي التي تسكنونها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟ وحتى يؤذن لكم، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها عند الاستئذان.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن التسليم أن يقال السلام عليكم أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا رجع»
. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي التسليم مع الاستئناس خير لكم من تحية الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن
وفي الحديث: «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر»
. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) أي أمرتم بهذا التأديب لكي تتذكروا به وتعملوا به.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد، وسبب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال. فنزلت هذه الآية. فقال أبو بكر: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن أفلا ندخلها إلا بإذن؟! فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ [النور: ٢٩] الآية فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي البيوت أَحَداً ممن يملك الإذن فَلا تَدْخُلُوها، واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن عند إتيانه، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق، أو كان فيه منكر ونحوه، وَإِنْ قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، فارجعوا سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا، ولا تلحوا بتكرير الاستئذان، ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أصلح لكم من الوقوف على أبواب الناس، لأنه قد يكرهه صاحب الدار. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول بإذن وبغيره عَلِيمٌ (٢٨) فيجازيكم عليه. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم أَنْ تَدْخُلُوا بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالربط والخانات والحوانيت، والحمامات ونحوها، فإنها معدة لمصالح الناس فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي حق انتفاع لكم كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الأمتعة والشراء والبيع، والاغتسال وغير ذلك وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) من قصد صلاح، أو فساد، أو اطلاع على عورات في دخول هذه المواضع. قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه، أي قل لهم: أن يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي يكفوا أبصارهم عن الحرام.
«من» زائدة أو للتبعيض، لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن، فوقع قصد أو لم يقصدوه، ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»
«١». وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن الحرام ذلِكَ أي غض البصر عن