آيات من القرآن الكريم

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حادثة الإفك، أبتعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم ن حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان ببيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أبتعها بآيات غضِّ البصر.
اللغَة: ﴿يَأْتَلِ﴾ يحلف والأليَّةُ: اليمين ومنه ﴿يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦] اي يحلفون ﴿المحصنات﴾ العفائف الشريفات الطاهرات جمع محصنة وهي العفيفة ﴿مُبَرَّءُونَ﴾ منزهون والبراءة: النزاهة مما نسب للإِنسان من تهمة ﴿تَسْتَأْنِسُواْ﴾ تستأذنوا وأصله في اللغة: طلبُ الأنس بالشيء قال الشاعر:

عوى الذئب فاستأنستُ للذئب إِذْ عوى وصوَّت إِنسانٌ فكدت أطير
﴿يَغُضُّواْ﴾ غضَّ بصره: خفضه ونكَّسه وأصله إطباق الجفن على الجفن قال جرير:
فغُضَّ الطّرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
﴿بِخُمُرِهِنَّ﴾ جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها، وخمّروا الآنية أي غطوها ﴿جُيُوبِهِنَّ﴾ جمع جيب وهو الصدر ﴿الإربة﴾ الحاجة إلى النساء.
سَبَبُ النّزول: أ - كان أبو بكر الصدّيق ينفق على «مسطح بن أُثاثة» لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة..﴾ الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
ب - عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم نيظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط «أي صدمه الحائط» فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليهوسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ الآيات.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا لآثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإِصغاء إِلى الإِفك والقول به ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر﴾ أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا ﴿مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر ﴿ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم

صفحة رقم 304

وضمائركم ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة﴾ أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار ﴿أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله﴾ أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كا نوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه ﴿وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا﴾ أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بلى أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل﴾ وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب، ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال ﴿إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات﴾ أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة ﴿المؤمنات﴾ أي المتصفاب بالإيمان مع طهارة القلب ﴿لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي طردوا وأُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبه وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق﴾ أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه.
. ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا قال ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾ أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة ﴿أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب

صفحة رقم 305

والبهتان ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي لهم على نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجنة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهم في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر الاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده ﴿حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا﴾ أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغي إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أرجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليه ما كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانه؟ قال لا، قال فاستأذن عليها ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً﴾ أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالجخول إليها ﴿فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ أي فاصبروا ولا تدخوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل جخولها إلا بإذن أصحابها ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا﴾ أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحًّوا ﴿هُوَ أزكى لَكُمْ﴾ أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال ﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي ليس عليكم إثمٌ وحرج ﴿أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾ أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال ابو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات، ثم أرشد تعالى إلى الآجاب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً

كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
﴿وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ أي يصونوا فروجهم عن الزنى عن الإِبداء والكشف ﴿ذلك أزكى لَهُمْ﴾ أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ الله

صفحة رقم 306

خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإِمام الفخر: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهم عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ﴾ أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهم لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضر مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ﴾ شققن مروطهن فاختمرن بها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب وشعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدورهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن ﴿أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ أي أو لآبائهن أن آباء أزواجهن وهو العم أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال ﴿أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن ﴿أَوْ نِسَآئِهِنَّ﴾ أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من

صفحة رقم 307

نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها ﴿أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال﴾ أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء﴾ أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان ﴿وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ﴾ أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأَيامي جمع أَيَّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيَّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج ﴿والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ﴾ أي وأنكحوا كذلك أهل التقى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانه التقى والصلاح في الإِنسان ﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاهم، ففي فضل الله ما يغنيهم ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث
«ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية ﴿حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً ﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ﴾ أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾ أي لا تجبروا إماءكم على الزنى ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في «عبد الله بن سلول» المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى «مُسَيْكة» والثانية تسمى «أميمة» فكان

صفحة رقم 308

يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذكل فشكتا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآية ﴿لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة ﴿وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسنيتقم ممن أكرههن شر انتقام ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾ أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات ﴿وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي وعظة وذكرى للمتقين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ شبَّه سلوك طريق الشيطان والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر خطوة خطوة بطريق الاستعارة.
٢ - الإِيجاز بالحذف ﴿أَن يؤتوا﴾ أي أن لا يؤتوا حذفت منه ﴿لا﴾ لدلالة المعنى وهو كثير في اللغة.
٣ - صيغة الجمع للتعظيم ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ والمراد به أبو بكر الصدّيق.
٤ - الجناس الناقص بين ﴿يَعْمَلُونَ﴾ و ﴿يَعْلَمُونَ﴾.
٥ - المقابلة اللطيفة بين ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ.. والطيبات لِلطَّيِّبِينَ﴾.
٦ - الطباق بين ﴿تُبْدُونَ.. تَكْتُمُونَ﴾.
٧ - الإِيجاز بالحذف ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ لأن المراد غض البصر عما حرَّم الله لا عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاءً بفهم المخاطبين.
٨ - المجاز المرسل ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ المراد مواقع الزينة وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل قال الزمخشري: وذكرُ الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون.
فَائِدَة: قال بعض المحققين: إن يوسف لما رُمي بالفاحسة برّاه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله في كتابه العزيز، فما رضي الله لها ببراءة صبيٍّ ولا نبيّ حتى برّأها الله في القرآن من القذف والبهتان.
تنبيه: السرُّ في تقديم غضّ البصر على حفظ الفروج ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، وهو مقدمة للوقوع في الخطر كما قال الشاعر:

وكنتَ إذا أَرسلتَ طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيتَ الذي لا كلَّه أنت قادرٌ عليه وعلى بعضه أنت صابر
لطيفَة: ذكر أن قسِّيساً أراد أن ينال من المسلمين بالطعن في أم المؤمنين السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقال: إن الناس رموها بالإِفك ولا ندري أهي بريئة أم متهمة؟ فأجابه بضع

صفحة رقم 309

الحاضرين بقوله: إسمعْ يا هذا، هناك امرأتان اتهمتا بالزنى وقد برأهما القرآن الكريم، إحداهما ليس لها زوج وقد جاءت بولد، والأخرى لها زوج ولم يأتها ولد - يقصد مريم وعائشة - فأيتهما أحرى بالتهمة؟ فخرس القسيس.

صفحة رقم 310
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية