آيات من القرآن الكريم

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ

١٤- استدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين،
لقول الزوج: «لعنة الله عليه» مما يدل على جواز لعن الشخص المقطوع بكذبه.
واستدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر لأن الزوج إن كان صادقا فزوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.
١٥- قال العلماء: لا يحل للرجل قذف زوجته
إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا، والأولى به تطليقها، سترا عليها، ما لم يترتب على فراقها مفسدة. فإن أتت بولد علم أنه ليس منه، وجب عليه نفيه، وإلا كان بسكوته مستلحقا ما ليس منه، وهو حرام، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي، وإن استبرأها بحيضة، حلّ النفي، على رأي القائلين بأن الحامل لا تحيض «١».
الحكم الخامس قصة الإفك
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)

(١) انظر مذكرات تفسيرات الأحكام للأستاذ المرحوم محمد علي السايس: ٣/ ١٣٣- ١٤٤

صفحة رقم 167

الإعراب:
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ: خبر إِنَّ ويجوز أن ينصب، ويكون خبر إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ.

صفحة رقم 168

البلاغة:
في المواضع المختلفة، أي هلا للحض بقصد التوبيخ على التقصير والتسرع في الاتهام.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ طباق بين الشر والخير.
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ طباق بين الهيّن والعظيم.
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الأصل أن يقال: ظننتم، لكن استعمل بطريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، مبالغة في التوبيخ، ولفت نظر إلى أن الإيمان يقتضي حسن الظن.
سُبْحانَكَ معناه تنزيه الله تعالى عند رؤية عجائب صنعه، للإشارة إلى أن مثل ذلك لا يخرج عن قدرته، ثم استعمل في كل متعجب منه.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه تهييج وتقريع. لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة، شبه سلوك طريق الشيطان بمن يتبع خطوات غيره خطوة خطوة.
أَنْ يُؤْتُوا فيه إيجاز بالحذف، أي ألا يؤتوا، حذفت منه (لا) لدلالة المعنى.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ المراد أبو بكر الصدّيق، وخاطبه بصيغة الجمع للتعظيم.
المفردات اللغوية:
بِالْإِفْكِ أبلغ الكذب وأسوأ الافتراء على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين بقذفها.
عُصْبَةٌ جماعة، وكثر إطلاقها على العشرة إلى الأربعين، وهم عبد الله بن أبيّ، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين وزوجة طلحة بن عبيد الله، ومن ساعدهم. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ لا تظنوه شرا أيها المؤمنون غير العصبة، وهو خطاب مستأنف، والشر: ما غلب ضرره على نفعه. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يأجركم الله به، ويظهر براءة عائشة وكرامتكم على الله، بإنزال ثماني عشرة آية «١» في براءتكم، وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن أساء الظن بكم، كما ذكر البيضاوي.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه من السوء، مختصا به. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ أي تولى معظمه من الخائضين، وهو عبد الله بن

(١) الظاهر أن هذه الآيات هي (١١- ٢٨) المختتمة بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
والأصح ما رواه الطبراني عن الحكم بن عتبة أن الله أنزل فيها خمس عشرة آية، أي إلى الآية (٢٦).

صفحة رقم 169

أبيّ، فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، أو في الدنيا، بأن جلدوا، وصار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق، وحسان أعمى وأشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر. هلا. ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ ظن بعضهم ببعض. إِفْكٌ مُبِينٌ كذب بيّن واضح، وفيه التفات أي ظننتم أيها العصبة وقلتمهلا، للحث على فعل ما بعدها.
جاؤُ العصبة. بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ شاهدوه. عِنْدَ اللَّهِ في حكمه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ لولا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره، أي لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة، المقرران لكم.
لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ لمسّكم عاجلا أيها العصبة فيما خضتم فيه عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، يستحقر دونه اللوم والجلد.
إِذْ ظرف لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ. تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي يرويه بعضكم عن بعض، وأصله: تتلقونه، وهو بمعنى تتلقفونه، فحذف منه إحدى التاءين. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً تظنونه امرأ يسيرا لا إثم فيه، أو لا تبعة فيه. وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي وهو في حكم الله عظيم في الوزر والإثم، والمعنى: هذه ثلاثة آثام مترتبة، علّق بها استحقاق العذاب العظيم وهي تلقي الإفك بألسنتهم، والتحدث به من غير تحقق، واستصغارهم شأنه، وهو عظيم عند الله وفي حكمه.
ما يَكُونُ لَنا ما ينبغي لنا وما يصح. سُبْحانَكَ تعجب ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب، تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله، ثم كثر استعماله في كل متعجب. بُهْتانٌ كذب مختلق يبهت السامع، لعدم علمه به. يَعِظُكُمُ ينصحكم وينهاكم.
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا لمثله، أو في أن تعودوا لمثله. أَبَداً ما دمتم أحياء مكلفين. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فتتعظون بذلك، فإن الإيمان يمنع عنه.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالأحوال كلها، وبما يأمر به وينهى عنه. حَكِيمٌ في تدبيره.
يُحِبُّونَ يريدون أي العصبة. أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر وتظهر. الْفاحِشَةُ الفعل القبيح المفرط القبح، وهو الزنى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا مؤلم وهو حد القذف.
وَالْآخِرَةِ بدخول النار أو السعير، رعاية لحق الله تعالى. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في الضمائر، ويعلم انتفاء الفاحشة عن المؤمنين. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أنتم أيها العصبة بما قلتم من الإفك لا تعلمون وجودها فيهم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تكرار لبيان المنة بترك تعجيل العقاب، للدلالة على

صفحة رقم 170

عظم الجريمة. وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم، وجواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة.
خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق تزيينه ونزغاته ووساوسه، بإشاعة الفاحشة. فَإِنَّهُ أي المتّبع. يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي القبيح المفرط في القبح. وَالْمُنْكَرِ ما تنكره النفوس وتنفر منه وينكره الشرع. وهو بيان لعلة النهي عن اتباعه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق إلى التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها. ما زَكى ما طهر من دنس الذنوب. مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أيها العصبة بما قلتم من الإفك.
أَبَداً آخر الدهر، أي ما طهر من هذا الذنب بالتوبة أحدا مطلقا. يُزَكِّي يطهر من الذنب. مَنْ يَشاءُ بقبول توبته منه. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهم. عَلِيمٌ بنياتهم.
وَلا يَأْتَلِ لا يحلف، من الألية وهي الحلف. أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين.
وَالسَّعَةِ في المال أي أصحاب الغنى والثراء، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه. أَنْ يُؤْتُوا على ألا يؤتوا. وَلْيَعْفُوا لما فرط منهم أي يمحوا الذنوب.
وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته، فتخلقوا بأخلاقه.
سبب النزول أو قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة:
روى الأئمة منهم أحمد، والبخاري تعليقا، ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت «١» : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر، أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها «٢»، فخرج فيها سهمي (نصيبي)
وخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني،

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٦٨ وما بعدها.
(٢) هي غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع.

صفحة رقم 171

أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار «١» قد انقطع.
فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على البعير الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه.
وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني، فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمي ثم الذّكواني قد عرّس «٢» من وراء الجيش، فأدلج «٣»، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه «٤» حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظّهيرة «٥».

(١) الجزع: خرز معروف في سواده بياض كالعروق، وظفار: مدينة باليمن.
(٢) التعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة في بقعة، ثم يرتحلون. [.....]
(٣) أدلج: سار من أول الليل.
(٤) الاسترجاع: أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(٥) وسط النهار عند الظهر أي وقت الظهيرة.

صفحة رقم 172

فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت «١» حين قدمناها شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني «٢» في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي،
إنما يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم؟»
- تي: إشارة إلى المؤنث- فذلك الذي يريبني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت «٣»، وخرجت معي أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف «٤» قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح- وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب- فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي، حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها «٥»، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت، تسبّين رجلا شهد بدرا؟
فقالت: أي هنتاه «٦»، ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت:
فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي،

(١) اشتكى عضوا من أعضائه: مرض وأحس بألم فيه.
(٢) يريبني: يوقعني في الريبة والشك.
(٣) نقه من المرض: صحّ.
(٤) المتبرّز: موضع التبرز، والكنف: جمع كنيف: المكان المخصص لقضاء الحاجة.
(٥) المرط: واحد المروط: وهي أكسية من صوف أو خزّ كان يؤتزر بها.
(٦) هنتاه: الهنة: هي الشيء الذي يستقبح، والمراد هنا الندبة المشوبة بالتعجب من الفعلة القبيحة لمسطح.

صفحة رقم 173

دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له:
أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال: نعم
، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجئت أبوي، فقلت لأمي:
يا أمتاه، لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنية، هوّني عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر.
قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريرة فقال: «هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن- أي ما- رأيت منها أمرا قطّ أغمصه «١» عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله.
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي- يعني عبد الله بن أبي- فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا

(١) غمصه: استصغره ولم يره شيئا.

صفحة رقم 174

رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي».
فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا، ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة، كذبت، لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان:
الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء.
فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، وتاب، تاب الله عليه».
فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله، فقال: والله ما أدري ما أقول

صفحة رقم 175

لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت- وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن-: والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدّقنّي، إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف ١٢/ ١٨].
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا- والله أعلم حينئذ أني بريئة- وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن والله، ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «١» عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه.
فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أمّا الله عزّ وجلّ فقد برّأك» فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات العشر كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على

(١) البرحاء: الشدة والانتفاضة من الجهد أو الألم.

صفحة رقم 176

مسطح بن أثاثة، لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال:
والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلم عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، المبرّأة من السماء.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير المحارم، وحكم قذف الزوجات، أبان الله تعالى في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك من المنافقين، وذكر فيها جملة من الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها، والزواجر التي كان ينبغي عدم التعرض لها، وهي تسعة كما سيأتي بيانه.
التفسير والبيان:
هذه الآيات العشر التي برأ الله فيها عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، غيرة من الله تعالى لها، وصونا لعرض نبيه صلّى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:

صفحة رقم 177

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي إن الذين أتوا بالإفك وهو أبلغ الكذب والافتراء جماعة منكم، لا واحد ولا اثنان، أي ما أفك به على عائشة، بزعامة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق هذا الكذب، وتواطأ مع جماعة صغيرة، فأصبحوا يروجونه ويذيعونه بين الناس، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وبقي شيوع الخبر قريبا من شهر، حتى نزل القرآن. وفي التعبير بعصبة إشارة إلى أنهم فئة قليلة.
وقوله تعالى: مِنْكُمْ أي منكم أيها المؤمنون لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لا تظنوا- يا آل أبي بكر وكل من تأذى بذلك الكذب واغتم، بدليل قوله تعالى مِنْكُمْ- أن ذلك هو شر لكم وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لاكتسابكم به الثواب العظيم، وإظهار عناية الله بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم. يتلى إلى يوم القيامة، وتهويل الوعيد لمن تكلم في حقكم.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكل واحد تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة نصيب من عذاب عظيم بقدر ما خاض فيه، أو عقاب ما اكتسب.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي والذي تحمل معظم ذلك الإثم منهم، وهو في رأي الأكثرين عبد الله بن أبي، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، فإنه أول من اختلق هذا الخبر، أو أنه كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه، فمعظم الشر كان منه، أما عذابه في الدنيا فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع، وأما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار.

صفحة رقم 178

وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، قال ابن كثير: وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي
قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هاجهم وجبريل معك» «١».
ثم أدب الله تعالى المؤمنين الذين خاض بعضهم في ذلك الكلام السوء في قصة عائشة رضي الله عنها، وزجرهم بتسعة أمور:
١-إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي هلا حين سمعتم كلام الأفاكين في عائشة ظننتم بها خيرا، عملا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن، وقلتم صراحة معلنين البراءة: هذا إفك مبين، أي كذب مختلق واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها فإن الذي وقع لم يكن ريبة، لمجيئها راكبة على راحلة صفوان بن المعطّل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم يكشف كل سوء وينفي كل شك، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة، بل كان يحدث- لو قدّر- خفية مستورا.
وهذا أدب جم، وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن المؤمن لا يظن بالمسلمين إلا خيرا.
٢-جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أي هلا جاؤوا على ما قالوه بشهود أربعة يشهدون على ثبوت ما جاؤوا به، وصحة ما قالوا، ومعاينتهم ما رموها به، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون. وهذا من الزواجر.

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٧٢

صفحة رقم 179

٣- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ورحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وهذا من الزواجر أيضا. ولَوْلا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره.
٤- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي لولا تفضل الله عليكم ورحمته لمسّكم العذاب حين تلقيكم أي تلقفكم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك يسيرا سهلا، وهو في شرع الله وحكمه أمر خطير عظيم، من عظائم الأمور وكبائرها، لما فيه من تدنيس بيت النبوة بأقبح الفواحش،
ورد في الصحيحين: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يدري ما تبلغ، يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض»
وفي رواية: «لا يلقي لها بالا».
وهذا أيضا من الزواجر، فقد وصفهم الله بارتكاب ثلاثة آثام، وعلّق مسّ العذاب العظيم بها، وهي:
الأول- تلقي الإفك بألسنتهم، أي الاهتمام بالسؤال عنه وبإشاعته، لا مجرد السماع عفوا، وإنما يأخذه بعضهم من بعض، ويذيعه.
الثاني- التكلم بما لا علم لهم به ولا دليل عليه، وهذا منهي عنه في قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء ١٧/ ٣٦]، وهو شبيه بقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
[آل عمران ٣/ ١٦٧].
الثالث- استصغار ذلك، وهو عند الله تعالى عظيم الإثم، موجب لشديد العقاب.

صفحة رقم 180

وهذا يدل على أمور ثلاثة: هي أن القذف من الكبائر، لقوله تعالى:
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وأن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها، وإنما بالواقع، فربما كان جاهلا لعظمها، لقوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وأن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، فربما كان من الكبائر.
٥- وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ هذا من الآداب، فهو تأديب آخر بعد الأمر الأول بظن الخير، والمعنى: هلا حين سمعتم ما لا يليق من خبيث الكلام قلتم: ما ينبغي لنا وما يصح، ولا يحل لنا أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا نذكره لأحد إذ لا دليل عليه، سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي إنا نعجب من عظم الأمر، وننزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه صلّى الله عليه وسلم فاجرة، فهذا بهتان عظيم واختلاق أثيم، وإيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلم، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب ٣٣/ ٥٧].
وإذا جاز أن تكون امرأة نبي كافرة، كامرأة نوح ولوط لأن الكفر لم يكن مما ينفر عندهم، فلا يجوز أن تكون امرأة أي نبي فاجرة لأن ذلك من أعظم المنفّرات.
والخلاصة: أن العقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، لما فيه من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، كما يمنعان ألا يعاقب هؤلاء القاذفين الأفاكين على عظيم ما اقترفوه وخاضوا فيه من الافتراء، وهو مدعاة للتعجب منه.
٦- يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هذا من الزواجر يحذر الله تعالى فيه المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا، أي في المستقبل ما دمتم أحياء مكلفين، ويعظكم بهذه المواعظ

صفحة رقم 181

والإنذارات، كيلا تعودوا لمثل هذا الفعل، إن كنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه وتعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلم، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ويوضح لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله عليم بما يصلح عباده، مطّلع على أحوالهم، فيجازي كل امرئ بما كسب، حكيم في شرعه وقدره، وتدبير شؤون خلقه، وتكليفه بما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة.
٧- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هذا أدب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء، معناه: إن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة ومحبة لها، وإن الذين يرغبون في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنى في أوساط المؤمنين، لهم عذاب مؤلم في الدنيا وهو حد القذف، وفي الآخرة بعذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور، ولا يخفى عليه شيء، ويعلم ما في القلوب من الأسرار، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص العلم والإحاطة بالأشياء والاعتماد على القرائن والأمارات لا تعملون تلك الحقائق.
أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته».
ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره.
وهذا التأديب التربوي له مغزاه العميق، فإن شيوع الفاحشة في مجتمع يجرئ الناس على الإقدام عليها، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها. والآية تدل على أن مجرد حب إشاعة الفاحشة كاف في إلحاق العذاب، فالذين يشيعونها فعلا أشد جرما وإثما وتعرضا للعقاب. ومنشأ حب إشاعة الفاحشة هو الحقد والكراهية،

صفحة رقم 182

والاستعلاء على الناس وحسدهم على ما يتمتعون به من تماسك واستقرار ومحبة ووئام، فيعمل الحاقد الكاره الحاسد كابن أبي على تقويض أركان هذا المجتمع، والغض من كرامته، والنيل من عرضه وسمعته، ظنا منه أن هذا شرف له.
٨- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي لولا الفضل الإلهي والرحمة لكان أمر آخر، والجواب المحذوف هو: لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق الأقوم، وحذّر من مغبّة الاستمرار في وجهة الانحراف، وبيّن خطر هذا الفعل الشنيع وهو الطعن بعرض بيت النبوة، فله الحمد والمنة، لذا حذر في الآية التالية من اتباع وساوس الشيطان فقال:
٩- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله لا تسيروا في طرائق الشيطان ومسالكه، ولا تسمعوا لوساوسه وتأثيراته وما يأمر به، في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن من يتبع وساوس الشيطان ويقتفي آثاره خاب وخسر لأنه- أي الشيطان- لا يأمر إلا بالفحشاء (ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبّحه العقل ونفّر منه) فلا يصح لمؤمن طاعته، وهذا تنفير وتحذير صريح.
والله تعالى، وإن خص المؤمنين في هذه الآية بالنهي عن اتباع وساوس الشيطان، فهو نهي لكل المكلفين، بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فكل المكلفين ممنوعون من ذلك.
وحكمة تخصيص المؤمنين بالذكر هي أن يتشددوا في ترك المعصية، لئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.

صفحة رقم 183

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ هذا التكرار لتأكيد المنة والنعمة على العباد، والمعنى: ولولا تفضل الله عليكم بالنعم، ورحمته السابغة، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، ما طهر أحدا من ذنبه، ولا خلصه من أمراض الشرك والفجور والأخلاق الرديئة، وإنما عاجله بالعقوبة، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل ١٦/ ٦١]، قال الرازي: إذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى، سمّي زكيا.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي والله تعالى القدير الحكيم يطهر من يشاء من خلقه، بقبول توبتهم، وتوفيقهم إلى ما يرضيه، مثل قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من قصة الإفك، والله سميع لأقوال عباده، ولا سيما في حالتي الوقوع في المعصية والإخلاص في التخلص منها، والبراءة من آثامها، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبالأقوال والأفعال، وبمن أصر على إشاعة الفاحشة ومن تاب منها، ومجاز كل إنسان بما قدّم.
وهذا حث واضح على التطهر من الذنوب، والإقبال على التوبة بإخلاص.
وبعد تأديب أهل الإفك ومن سمع كلامهم، أدب الله تعالى أبا بكر لما حلف ألا ينفق على مسطح أبدا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف ألا ينفق على مسطح، وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فقال تعالى:
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، والسعة في المال والثروة ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا. وفيه دليل على

صفحة رقم 184

فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه، وحث على صلة الرحم، فهذا في غاية الترفق والعطف في صلة الأرحام.
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أي ليعفوا عن المسيء، ويصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، وليعودوا إلى صلتهم الأولى، فإن من أخطأ مرة يجب ألا يتشدد في العقاب عليه، وقد عوقب مسطح بالحد والضرب، وكفى ذلك، وزلق زلقة تاب الله عليه منها.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ألا تريدون أن يستر الله عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك: «من لا يرحم لا يرحم» «١» والله غفور لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم فلا يعذبهم بزلّة حدثت ثم تابوا عنها، فتخلقوا بأخلاق الله تعالى.
وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصدّيق إلى القول: «بلى، والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربّنا» ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: «والله لا أنزعها منه أبدا».
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه جملة من الآداب والزواجر، أرشدت إليها قصة الإفك، وهي تربية عالية للمجتمع، وصون لأخلاقه من التردي والانحدار، ونبذ للعادات السيئة في إشاعة الأخبار دون علم ولا تثبت، وقد دلت الآيات على ما يلي:
١- إن داء الأمة ينبع من داخلها، وأخطر داء فيها زعزعة الثقة بقادتها ومصلحيها، وتوجيه النقد الهدام لهم، ومحاولة النيل من عرضهم وسمعتهم

(١) هذا حديث صحيح أخرجه الطبراني عن جرير بلفظ: «من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب عليه».

صفحة رقم 185

وكرامتهم، فأهل الإفك ليسوا من الأعداء الخارجين، وإنما هم- في الظاهر- عصبة من المؤمنين.
٢- ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض، وإنما ما غلب نفعه على ضرره فهو خير، وما غلب ضرره على نفعه فهو شر، فحقيقة الخير: ما زاد نفعه على ضره، والشرّ: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيرا لا شرّ فيه هو الجنة، وشرّا لا خير فيه هو جهنم. أما البلاء النازل على الأولياء فهو خير لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الآخرة. لذا كان حديث الإفك خيرا على عائشة وأهلها آل أبي بكر، وعلى صفوان بن المعطّل المتهم البريء، فقال تعالى:
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.
وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة رضوان الله عليهم. وقيل كما ذكر ابن إسحاق: كان حصورا لا يأتي النساء. وقال: والله ما كشفت كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع وعشرين في زمان عمر. وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.
٣- للذين خاضوا في إثم الإفك جزاء وعقاب في الدنيا والآخرة، وهم الذين أصروا على التهمة، أما الذين تابوا وهم حسان ومسطح وحمنة، فقد غفر الله لهم.
٤- إن زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ هو الذي تولى كبر حديث الإفك، واختلاق معظم القصة، والترويج لها وإشاعتها بين المسلمين. وهل جلد هو وغيره؟
روى الترمذي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانا وحمنة.
وذكر القشيري عن ابن عباس قال:
جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أبيّ ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار.

صفحة رقم 186

وقال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلّى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على قولين:
أحدهما- أنه لم يحدّ أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبّده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. وعقب القرطبي على ذلك قائلا: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن فإن الله عزّ وجلّ يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أي لم يأتوا بشهود أربعة على صدق قولهم.
والقول الثاني- أن النبي صلّى الله عليه وسلم حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ: حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي. وهذا- أي تعيين الذين حدّوا- رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حدّ في الدنيا، لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ.
وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف، حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة،
وقد قال صلّى الله عليه وسلم في الحدود من حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه مسلم بلفظ: «ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له»
أي أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه.
٥- على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا ببعضهم خيرا، لذا عاتبهم الله تعالى بقوله: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي ببعضهم أو

صفحة رقم 187

بإخوانهم، فالواجب على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن، وحلّة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
٦- إن إثبات تهمة الزنى إما بالإقرار أو بأربعة شهود، فقوله تعالى:
جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ توبيخ لأهل الإفك على تقصيرهم في الإثبات، أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا إحالة على المذكور في آية القذف السابقة. وإذ لم يأتوا بالشهداء فهم في حكم الله كاذبون.
٧- إن أحكام الدنيا في الإثبات ونحوه تجري على الظاهر، والسرائر إلى الله عزّ وجلّ، أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
٨- تكرّر الامتنان من الله تعالى على عباده في قصة القذف مرتين في قوله:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لولا فضله ورحمته لمسّكم بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا.
٩- وصف الله الخائضين في قصة الإفك بارتكاب آثام ثلاثة: تلقي الإفك بألسنتهم وإشاعته بينهم، والتكلم بما لا علم لهم به، واستصغارهم ذلك وهو عظيم الوزر، ومن العظائم والكبائر. وهذا يدل أن القذف من الكبائر، وأن عظم

صفحة رقم 188

المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، وأنه يجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرّم.
١٠- عاتب الله جميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار خبر الإفك، وألا يحكيه أو ينقله بعضهم عن بعض، وأن ينزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه صلّى الله عليه وسلم، وأن يحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه. والغيبة: أن يقال في الإنسان ما فيه.
وإن وصف الإيمان يجب أن يكون باعثا لهم على هذا التخلق والأدب.
١١- دلّ قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي في عائشة، قال الإمام مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب، ومن سبّ عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. وقال ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وهذا ردّ على ما قال ابن العربي: «قال أصحاب الشافعي: من سبّ عائشة رضي الله عنها أدّب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة: «والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه»

أي لا يكمل إيمانه، لا أنه سلب الإيمان.
وبوائقه: شروره وآثامه ودواهيه.
١٢- إن الذين يحبون إشاعة الفاحشة (الفعل القبيح المفرط القبح) في المؤمنين المحصنين والمحصنات كعائشة وصفوان رضي الله عنهما لهم عذاب أليم في الدنيا بالحدّ، وفي الآخرة بعذاب النار أي للمنافقين، أما الحدّ للمؤمنين فهو كفارة. والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء، والناس لا يعلمون بذلك.

صفحة رقم 189

١٣- نهى الله المؤمنين وغيرهم عن اتباع مسالك الشيطان ومذاهبه لأنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.
١٤- لله تعالى وحده الفضل في تزكية المؤمنين وتطهيرهم وهدايتهم، لا بأعمالهم.
١٥- على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال:
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن جرير: «من لا يرحم لا يرحم».
١٦- في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان معصية كبيرة لا يحبط الأعمال لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان وكذلك سائر الكبائر ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر ٣٩/ ٦٥].
١٧- من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه.
١٨- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.
١٩- دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه

صفحة رقم 190
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية