الزيتون التي أنبتها الله في الأصل من جبل الطور في سيناء الذي بارك الله فيه، وطور سيناء: من أرض الشام، هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام. وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان المشهوران عند العرب كثيرا.
وزيت الزيتون يصلح للادهان به وللائتدام به، لذا كان المراد بالآية:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ تعداد نعمة الزيت على الإنسان، وبيان وجوه الانتفاع به، ففي الزيت شفاء لكثير من الأمراض الجلدية الظاهرة، والباطنية الداخلية، فيدهن به الجلد فتتقوى بصلة الشعر، ويؤكل مع الخبز إداما، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ.
٤- ذكر الله تعالى للأنعام (الإبل والبقر والغنم) أربع منافع: هي الانتفاع بالألبان، والانتفاع بالأصواف للباس والأثاث والفرش، وللبيع والاستفادة من الأثمان، والانتفاع من اللحوم بالأكل بعد الذبح، كالانتفاع بها حية، والانتفاع بالركوب على الإبل في البر والحمل عليها كالانتفاع بالفلك (السفن) في البحر، وهذا دليل على أن الركوب راجع إلى بعض الأنعام.
روي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول، فأنطقها الله تعالى معه، فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث (أي العمل الزراعي).
القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
الإعراب:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: اسم ما، وما قبله: الخبر، ومِنْ: زائدة.
مُنْزَلًا مصدر لفعل رباعي وهو (أنزل) وتقديره: أنزلني إنزالا مباركا، ويجوز أن يكون اسم مكان. وقرئ بفتح الميم (منزلا) وهو مصدر لفعل ثلاثي وهو (نزل) ويجوز أن يكون أيضا اسم مكان.
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ: إِنَّ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنه كنا لمبتلين. وذهب الكوفيون إلى أنّ إِنَّ بمعنى (ما) واللام بمعنى (إلا) وتقديره: ما كنا مبتلين.
البلاغة:
اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا استعارة، عبر عن الحفظ والرعاية أو الحراسة بالصنع على الأعين لأن الحافظ للشيء يديم مراعاته في الأغلب بعينيه.
وَفارَ التَّنُّورُ كناية عن الشدة، مثل: حمي الوطيس. وقيل: المراد بالتنور وجه الأرض مجازا.
أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
اعْبُدُوا اللَّهَ أطيعوا الله ووحدوه. تَتَّقُونَ تخافون عقوبته بعبادتكم غيره. الْمَلَأُ أشراف القوم، قالوا للعوام. يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يطلب الفضل والسيادة عليكم، بأن يكون متبوعا وأنتم أتباعه. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لوشاء أن يعبد غيره وأن يرسل رسولا لأنزل ملائكة بذلك، لا بشرا. ما سَمِعْنا بِهذا الذي دعا إليه نوح من التوحيد. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ الأمم الماضية. إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل به حالة جنون وضعف عقل.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروه واحتملوه. حَتَّى حِينٍ أي إلى زمن لعله يفيق من جنونه، أو إلى زمن موته.
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي أي قال نوح بعد يأسه من إيمانهم: ربّ انصرني عليهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي، بأن تهلكهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أمرناه إجابة لدعائه. أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ السفينة. بِأَعْيُنِنا بحفظنا ورعايتنا. وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب أو نزول العذاب والإهلاك. وَفارَ نبع. التَّنُّورُ أي مكان خبز الخباز أو وجه الأرض، وكان نبع الماء منه علامة لنوح عليه السلام. فَاسْلُكْ فِيها أي أدخل في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين: ذكر وأنثى من أنواع الحيوان الموجود وقتئذ. اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى، أي خذ معك على السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان صنفا من الذكور وصنفا من الإناث، كالجمال والنوق، مزدوجين. وقراءة حفص مِنْ كُلٍّ أي من كلّ نوع زوجين. واثْنَيْنِ: تأكيد وزيادة تأكيد.
وَأَهْلَكَ أهل بيتك، أو من آمن معك. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي إلا من قضي عليه القول من الله بهلاكه لكفره وهو زوجته وولده كنعان، بخلاف سام وحام ويافث، فأخذهم مع زوجاتهم الثلاثة. قيل: كانوا ستة رجال مع نسائهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقد عبّر بعلى في قوله: مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ لأن المقضي به ضارّ، كما عبّر باللام حيث كان المقضي به نافعا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ...
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة، لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن كان هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه. اسْتَوَيْتَ اعتدلت وعلوت. مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين، والنجاة: هي من إهلاكهم.
وَقُلْ عند نزولك من الفلك. رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أي اجعل إنزالي أو مكانه إنزالا أو مكانا مباركا، أي فيه الخير والبركة. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ثناء مطابق لدعائه، أمره به توسلا إلى الإجابة. وإنما أفرده بالأمر مع شموله من آمن معه إظهارا لفضله والاكتفاء بدعائه عن دعائهم. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من فعل نوح والسفينة، وفعل قومه وإهلاكهم. لَآياتٍ
دلالات على قدرة الله تعالى. لَمُبْتَلِينَ مختبرين ممتحنين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه، أي معاملتهم معاملة من يختبر.
المناسبة:
الارتباط بين هذه الآيات وبين ما قبلها جار على وفق العادة في سائر الآيات، بذكر قصص الأنبياء بعد بيان أدلة التوحيد، والقصد هو بيان كفران الناس بعد تعداد النعم المتلاحقة عليهم، وما حاق بهم من زوالها.
فبعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد من خلق الإنسان، والحيوان، والنبات، وخلق السموات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا الحالات المماثلة لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة، فذكر خمس قصص: هي قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح ولوط وشعيب، وقصة موسى وهارون وفرعون، وقصة عيسى وأمه.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى موقف نوح عليه السلام مع قومه حينما أنذرهم عذاب الله، وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به، وخالف أمره، وكذب رسله، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ... تَتَّقُونَ:
أي ولقد بعثنا نوحا إلى قومه، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وقال لهم: ألا تتقون، أي ألا تخافون من الله في إشراككم به؟
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي فقال السادة والأكابر منهم: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وليس له ميزة في علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟!
وموانع نبوته هي:
١- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي ولو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، فإن إنزال الملك أدعى للإيمان، وأدل على الصدق. وهذا ناشئ من تصورهم سموا الرسالة التي تقتضي جعلها في عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة، وأنه لا يمكن تكليف البشر بالرسالة الإلهية.
٢- ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي ما سمعنا ببعثة البشر في عهد الأسلاف والأجداد في الدهور الماضية. وهذا ناشئ من اعتمادهم في العقيدة على التقليد، وإصرارهم على الكفر والعناد.
٣- إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي وما نوح إلا رجل مجنون فيما يزعمه أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه، أو ييأس فيرجع إلى دينكم، أو يفيق من جنونه. وهذا مجرد مكابرة، فهم عرفوا نوحا برجحان عقله، واتزان قوله، واستقامة سيرته.
ولما يئس نوح من إجابة دعوته، وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم فقال:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي قال نوح: ربّ انصرني على هؤلاء القوم، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر ٥٤/ ١٠]، وقوله أيضا: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦].
فأجاب الله دعاءه وأمره بصنع السفينة فقال:
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أي فأمرناه بأن يصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا، وتعليمنا وإرشادنا كيفية الصنع.
فَإِذا جاءَ أَمْرُنا، وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي فإذا حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من وجه الأرض أو من التنور المخصص للخبز، فاحمل في السفينة فردين مزدوجين ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، أو كل من آمن معك، وهذا المعنى هو الأرجح، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه.
روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور، فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور، أخبرته امرأته، فركب.
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي ولا تسألني ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا تأخذنك رأفة في قومك، فإني قد قضيت أنهم مغرقون، بسبب ما هم عليه من الكفر والطغيان، أي أن الغرق نازل بهم لا محالة.
ثم أمره الله أن يحمده ويثني عليه بعد ركوب السفينة:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ.. أي فإذا استقر بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل أنت وهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
ثم أمره أيضا أن يدعوه بعد خروجه من السفينة دعاء مقرونا بالثناء فقال:
وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، بحسب ما تقتضيه الحكمة.
وهذا وما قبله تعليم لذكر الله عند ابتداء السير وانتهائه، قال قتادة: علّمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود ١١/ ٤١]، وعند ركوب الدابة: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف ٤٣/ ١٣] أي مطيقين، وعند النزول: وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين لدلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإنا لمختبرون بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويتذكر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر ٥٤/ ١٥]. وقيل:
أي نعاملهم معاملة المختبرين.
وتقدمت القصة بتفصيل أكثر في سورة هود عليه السلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه القصة واضحة الدلالة كغيرها من القصص القرآني على أن نزول العذاب: عذاب الاستئصال والهلاك كان بسبب العناد والإصرار على الكفر، وملازمة الشرك والوثنية.
فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم لعبادة الله وحده لا شريك له، وينذرهم بأس الله وانتقامه ممن أشرك به، وكذب رسله،
قائلا لهم: أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عذاب الله، وتتقون عقابه؟ وهو زجر ووعيد ليقلعوا عما هم عليه.
فما كان منهم إلا إنكار نبوته معتمدين على شبهات خمس هي:
الأولى- إنكار كون النبي أو الرسول بشرا مماثلا لغيره في البشرية، ومساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى، ومتصفا بصفات تجعل له منزلة عليا ودرجة رفيعة وعزة سامية.
واتهموه بناء عليه بطلب الزعامة والرئاسة والترفع والسيادة عليهم.
الثانية- طلب أن يكون النبي ملكا، فلو شاء الله إرشاد البشر، لوجب إرسال ملك من الملائكة يحقق المقصود بنحو أفضل وأسرع وأنجع من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ينقاد الناس إليهم.
الثالثة- الخروج عن سنة الآباء والأسلاف، فهم لا يعرفون غير التقليد واتباع سلوك الآباء، فلما وجدوا في طريقة نوح عليه السلام خروجا عن المألوف، حكموا ببطلان نبوته.
الرابعة- اتهامه من قبل الرؤساء بالجنون، للترويج على العوام، بسبب فعله أفعالا على خلاف عاداتهم، ومن كان مجنونا لا يصلح أن يكون رسولا.
الخامسة- الصبر عليه وتركه لعاديات الزمان، فإنه إن كان نبيا حقا، فالله ينصره ويقوي أمره، وحينئذ يتبعونه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه.
ولم يجب الله تعالى عن هذه الشبه لسخافتها وسطحيتها، فإن جعل الرسول من جملة البشر أولى، لما بينه وبين غيره من الألفة والمؤانسة وإن قصد الزعامة
والسيادة يتنافى مع سمو الأنبياء، فهم منزهون عن هذه المقاصد الدنيوية الزائلة وأما التقليد فهو دليل القصور العقلي، وتعطيل موهبة الفكر والرأي الحر وأما اتهامه بالجنون فيناقضه أنهم كانوا يعلمون بداهة كمال عقله ورجاحة رأيه وأما التربص به إلى حين ففي غير صالحهم لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته بالمعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، وإن لم يأت بمعجزة فلا يقبل قوله.
ولما تهاوت حججهم، وأصروا على كفرهم، أمر الله نوحا بالدعاء عليهم والانتقام ممن لم يطعه، ولم يسمع رسالته، وأرسل له رسولا يوحي إليه بصناعة السفينة، فإذا تم صنعها فليأخذ من كل الأصناف زوجين: ذكرا وأنثى، حفاظا على أصول المخلوقات.
ثم أمره الله أولا بأن يحمد الله هو ومن معه على النجاة وتخليصه من القوم الظالمين ومما أحاط بهم من الغرق، والحمد الله: كلمة كل شاكر لله.
وثانيا بأن ينزله مع المؤمنين إنزالا مباركا أو موضعا طيبا مباركا، يهيئ الله به خير الدارين.
وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا: أن يقولوا هذا:
رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً.. وكذلك إذا دخلوا بيوتهم وسلّموا على أهليهم، أو على الملائكة إذا لم يوجد الأهل.
والخلاصة وعبرة القصة: أن في أمر نوح والسفينة وإهلاك الكافرين لدلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه، ويهلك أعداءهم، وأنه تعالى يختبر الأمم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي.