
(يا أيها الناس ضرب مثل) هذا متصل بقوله: (ويعبدون من دون الله)، وإنما قال ضرب مثل لأن حجج الله عليهم بضرب الأمثال لهم أقرب إلى أفهامهم، قال ابن عباس: نزلت في صنم، قال الأخفش: ليس ثَمَّ مثل وإنما المعنى ضربوا لي مثلاً؛ قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلاً، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه أي بين الله لكم شبهاً ولمعبودكم، وقال القتيبي: معنى ضرب مثل أي عبدت آلهة لم تستطع أن تخلق ذباباً، وأصل المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضاء والقبول مسيرة في الناس مستغربة عندهم وجعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة في هذه الآية.
صفحة رقم 83
(فاستمعوا له) أي لضرب هذا المثل وتدبروه حق تدبره، فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع، والمعنى أن الكفار جعلوا لله مثلاً لعبادتهم غيره فكأنه قال: جعلوا لي شبيهاً في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه، ثم بين حالها وصفتها فقال:
(إن الذين تدعون من دون الله) المراد بهم الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها، وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله، لكونهم أهل الحل والعقد فيهم؛ وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل.
(لن يخلقوا ذباباً) واحداً مع ضعفه وصغره وقلته وهو اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى وجمع القلة إذبة والكثرة ذبان بالكسر مثل غراب وأغربة وغربان وبالضم كقضبان.
وقال الجوهري: الذباب معروف، الواحد ذبابة، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره و (لن) لتأكيد النفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل، كأنه قال: محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته واستقذاره، والمعنى لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات وهو أجهل الحيوانات، لأنه يرمي نفسه في المهلكات، ومدة عيشه أربعون يوماً، وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض.
(ولو اجتمعوا له) أي لخلق الذباب، والتقدير لن يخلقوه على كل حال، ولو في هذه الحالة المقتضية لجمعهم، فكأنه تعالى قال: إن هذه الأصنام إن اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل

جعلها معبوداً كما أشار إليه في التقرير، ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال:
(وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) أي إذا أخذ واختطف منهم هذا الخلق الأقل الأرذل شيئاً من الأشياء بسرعة لا يقدرون على تخليصه منه؛ لكمال عزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والانقاذ التخليص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشد منه قوة وأعجز وأضعف، قال عكرمة: أي لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب فقال:
(ضعف الطالب والمطلوب) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب، وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم قال ابن عباس: الطالب آلهتهم والمطلوب الذباب، ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال:
(ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
تقدم في الأنعام