آيات من القرآن الكريم

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

قوله: ﴿وكذلك نُنجِي﴾ : الكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ. وقرأ العامَّة «نُنْجي» بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «نُجِّيْ» بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ. وفيها أوجهٌ، أحسنها: أن يكونَ الأصل «نُنَجِّي» بضمِّ الأولى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ، فاستثقل توالي مِثْلين، فحُذِفت الثانيةٌ، كما حُذِفَت في قوله ﴿وَنُزِّلَ الملائكة﴾ [الفرقان: ٢٥] في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم، وكما حُذِفَتْ التاءُ الثانيةُ في قولِه ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢] و ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] وبابِه.
ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال: «أحدهُما: أنَّ النونَ

صفحة رقم 191

الثانية أصلٌ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُها يَبْعُدُ جداً. والثاني: أنَّ حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ» تَظاهَرون «ألا ترى أنَّك لو قلتَ:» تُتَحامى المظالِمُ «لم يَسُغْ حَذْفُ الثانية».
أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ، ألا ترى أن النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة: أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى هي أصلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ. وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيِّ حركةٍ كانا.
الوجه الثاني: أن «نُجِّي» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول، وإنما سُكِّنَتْ لامُه تخفيفاً، كما سُكِّنت في قوله: ﴿مَا بَقِيْ مِنَ الربا﴾ [البقرة: ٢٧٨] في قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك. قالوا: وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً فالمعتلُّ أولى، فمنه:

٣٣٥٧ - إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ
وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً.
وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ

صفحة رقم 192

كقراءةِ أبي جعفرٍ ﴿ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: ١٤] وهذا رأيُ الكوفيين والأخفش. وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ، والتقدير: نُجِّيَ النَّجاءُ. قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ من وجهين، أحدُهما: تسكينُ آخرِ الفعلِ الماضي، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح». قلت: عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم.
الوجه الثالث: أنَّ الأصلَ: ننجِّي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ قُلِبَتْ جيماً، وأُدغِمت في الجيم بعدها. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا تُقارِبُ الجيمَ فتُدغَمُ فيها.
الوجه الرابع: أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي: نُجِّي النَّجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلاَّ أن «المؤمنين» ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ، وكأنَّ صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه، فجعله مِنْ جملةٍ أخرى.
وهذا القراءةُ متواترةٌ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها، وإنْ كان أبو عليٍ قال: «هي لحنٌ». وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج. وأمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال: «ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال: نُجِّي النَّجاءُ

صفحة رقم 193

المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين، فتعسُّفٌ باردُ التعسُّفِ». قلت: فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ. وقد يمكنُ أن يكونَ هو الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف.

صفحة رقم 194
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون
عرض الكتاب
المؤلف
أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي
تحقيق
أحمد بن محمد الخراط
الناشر
دار القلم
عدد الأجزاء
11
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية