آيات من القرآن الكريم

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ

عِدَادِ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ دَلَائِلِ الْكَرَامَةِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يعرف لداوود بَعْدَ أَنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ مُزَاوَلَةُ صُعُودِ الْجِبَالِ وَلَا الرَّعْيِ فِيهَا وَقَدْ كَانَ مِنْ
قَبْلِ النُّبُوءَةِ رَاعِيًا. فَلَعَلَّ هَذَا التَّسْخِيرَ كَانَ أَيَّامَ سِيَاحَتِهِ فِي جَبَلِ بَرِّيَّةِ (زَيْفٍ) الَّذِي بِهِ كَهْفٌ كَانَ يأوي إِلَيْهِ دَاوُود مَعَ أَصْحَابِهِ الْمُلْتَفِّينَ حَوْلَهُ فِي تِلْكَ السِّيَاحَةِ أَيَّامَ خُرُوجِهِ فَارًّا مِنَ الْمَلِكِ شَاوَلَ (طَالُوتَ) حِينَ تَنَكَّرَ لَهُ شَاوَلُ بِوِشَايَةِ بعض حساد دَاوُود، كَمَا حُكِيَ فِي الْإِصْحَاحَيْنِ ٢٣- ٢٤ مِنْ سِفْرِ صَمْوِيلَ الْأَوَّلِ. وَهَذَا سِرُّ التَّعْبِيرِ بِ (مَعَ) مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ سَخَّرْنا هُنَا. وَفِي آيَةِ سُورَةِ ص إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَسْخِيرُ مُتَابَعَةٍ لَا تَسْخِيرُ خِدْمَةٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْآتِي وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الْأَنْبِيَاء: ٨١] إِذْ عُدِّيَ فِعْلُ التَّسْخِيرِ الَّذِي نَابَتْ عَنْهُ وَاوُ الْعَطْفِ بِلَامِ الْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ (مَعَ) فِي آيَةِ [سُورَةِ سَبَأٍ: ١٠] يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ.
وَفِي هَذَا التَّسْخِيرِ لِلْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَهُ كَرَامَةٌ وَعِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ إِذْ آنَسَهُ بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ فِي وَحْدَتِهِ فِي الْجِبَالِ وَبُعْدِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ.
وَجُمْلَةُ وَكُنَّا فاعِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَمَّا أوتيه دَاوُود. وَفَاعِلُ هُنَا بِمَعْنَى قَادِرٍ، لِإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَهُ. وَفِي اجْتِلَابِ فِعْلِ الْكَوْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ شَأْنٌ ثَابِتٌ لِلَّهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ وَكُنَّا قَادِرِينَ على ذَلِك.
[٨٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٨٠]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠)
وَامْتَنَّ اللَّهُ بصنعة علّمها دَاوُود فَانْتَفَعَ بِهَا النَّاسُ وَهِيَ صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، أَيْ دُرُوعُ السَّرْدِ. قِيلَ كَانَتِ الدُّرُوعُ من قبل دَاوُود ذَاتَ

صفحة رقم 120

حَرَاشِفَ مِنَ الْحَدِيدِ، فَكَانَتْ تَثْقُلُ عَلَى الْكُمَاةِ إِذَا لَبِسُوهَا فألهم الله دَاوُود صُنْعَ دُرُوعِ الْحَلَقِ الدَّقِيقَةِ فَهِيَ أَخَفُّ مَحْمَلًا وَأَحْسَنُ وِقَايَةً.
وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ صَمْوِيلَ الْأَوَّلِ أَنَّ جَالُوتَ الْفِلَسْطِينِيَّ خرج لمبارزة دَاوُود لَابِسًا دِرْعًا حَرْشَفِيًّا، فَكَانَتِ الدُّرُوعُ الْحَرْشَفِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي وَقت شباب دَاوُود فَاسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ دُرُوعَ السَّرْدِ. وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَقَدْ أَجَادَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ وَصْفَهَا بِقَوْلِهِ:

شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ من نسج دَاوُود فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ (١)
وَكَانَتِ الدُّرُوعُ التُّبَّعِيَّةُ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعَرَبِ فَلَعَلَّ تُبَّعًا اقْتَبَسَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل بعد دَاوُود أَوْ لَعَلَّ الدُّرُوعَ التُّبَّعِيَّةَ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْحَرَاشِفِ، وَقَدْ جَمَعَهَا النَّابِغَةُ بِقَوْلِهِ:
وَكُلُّ صَمُوتٍ نِثْلَةٌ تُبَّعِيَّةٌ وَنَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قَمْصَاءَ ذَائِلِ
أَرَادَ بِسُلَيْمٍ تَرْخِيمَ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي سُلَيْمَان بن دَاوُود، فَنَسَبَ عَمَلَ أَبِيهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُدَّخِرًا لَهَا.
واللبوس- بِفَتْحِ اللَّامِ- أَصْلُهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْبَسُ فَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ رَسُولٍ. وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا يُلْبَسُ مِنْ لَامَةِ الْحَرْبِ مِنَ الْحَدِيدِ، وَهُوَ الدِّرْعُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الدِّرْعِ لِبَاسٌ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَبُوسٌ كَمَا يُطْلَقُ لَبُوسٌ عَلَى الثِّيَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
اللَّبُوسُ فِي اللُّغَةِ السِّلَاحُ فَمِنْهُ الرُّمْحُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ.
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلْبَئِيسِ كَأَنَّهُ رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعَاجٍ مُجْفِلِ (٢)
_________
(١) القفعاء: بقاف ففاء فعين: بزْرَة صحراء نبت ينبسط على وَجه الأَرْض يشبه حلق الدروع.
(٢) البئيس: الشجاع، وَذُو النعاج: الثور الوحشي مَعَه نعاجه أَي إناثه فَهُوَ مجفل من الصَّائِد.

صفحة رقم 121
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية