
- ٤- نعم أخرى على إبراهيم وإنجاؤه مع لوط إلى الأرض المباركة
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
البلاغة:
فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ عطف الصلاة والزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام للتفضيل فإنهما من فعل الخيرات، وخصهما بالذكر لفضلهما ورفعة مرتبتهما.
العالمين الصالحين العابدين سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
وَلُوطاً ابن أخي إبراهيم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي من العراق إلى أرض فلسطين في الشام، التي بارك الله فيها بكثرة الأنهار والأشجار، أو لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. روي أن إبراهيم نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما مسافة يوم وليلة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم، وكان قد سأل ولدا، كما جاء في سورة الصافات نافِلَةً عطية ومنحة، وهي حال من إسحاق ويعقوب، أو المراد: زيادة على ما سأل وهو إسحاق، فتختص كلمة نافِلَةً بيعقوب، ولا بأس به للقرينة، كما قال البيضاوي.
وَكُلًّا أي الأربعة: هو وولداه ولوط جَعَلْنا صالِحِينَ أنبياء، ووفقناهم للصلاح،

فصاروا كاملين وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً رؤساء يقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ الناس إلى ديننا بِأَمْرِنا أي بأمرنا لهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أن يحثوا الناس على فعل الخير، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم.
وأصل الكلام: أن تفعل الخيرات. وحذفت تاء إِقامَ تخفيفا، وهي الإقامة لقيام المضاف إليه مقامها عابِدِينَ موحدين مخلصين في العبادة، ولذلك قدم الصلة وهي لنا ليفيد الإخلاص في العبادة.
المناسبة:
بعد إنجاء إبراهيم من النار، ذكر الله تعالى نعما أخرى عليه وعلى لوط ابن أخيه، وقد قرن مع إبراهيم لما كان بينهما من القرابة والاشتراك في النبوة. ومن تلك النعم: إخراجهما من العراق إلى بلاد الشام الأرض المباركة، ومنها: جعلهما أئمة يقتدى بهم، وإنزال الوحي عليهما لفعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن النعم على إبراهيم هبته من الذرية إسحاق ويعقوب.
التفسير والبيان:
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي ومن نعم الله تعالى على إبراهيم: أنه ولوط عليهما السلام نجاهما إلى الأرض المباركة، بالهجرة من العراق إلى بلاد الشام الأرض المقدسة، والتي بارك الله فيها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء، وانتشرت شرائعهم بين العالمين، كما بارك فيها بخصوبة أراضيها وكثرة أشجارها وأنهارها، فاجتمع فيها خير الدنيا والآخرة. ويقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال.
وكانت هجرة إبراهيم من كوثى من بلدة «فدان آرام» بالعراق، ومعه لوط وسارّة، فرارا من الشرك والوثنية، والتماسا لمقر التوحيد وعبادة الله، فنزل حرّان، ثم رحل إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، فنزل بفلسطين، وأقام لوط في قرى المؤتفكة التي تبعد عن فلسطين مسيرة يوم وليلة.

ثم ذكر تعالى نعما أخرى على إبراهيم بعد نعمتي النجاة من النار والهجرة إلى الأرض المباركة فقال:
١- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي ومنحنا إبراهيم من الذرية المباركة إسحاق ويعقوب، أو أعطيناه إسحاق إجابة لدعائه، إذ قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات ٣٧/ ١٠٠] وزدناه يعقوب نافلة زائدة على ما سأل، كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض. وعلى التفسير الأول:
تكون النافلة (أي العطية والمنحة) إسحاق ويعقوب، وعلى التفسير الثاني:
النافلة يعقوب خاصة.
٢- وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ أي وكلا من الأربعة: لوط وإبراهيم وولديه، أو: وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلنا الجميع أهل خير وصلاح، يطيعون ربهم، ويتجنبون محارمه، أو جعلناهم أنبياء مرسلين، والأول أقرب لشموله الكل.
ووصفهم بالصلاح يدل على أن الأنبياء معصومون.
٣- وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي وصيرناهم قادة وأئمة يقتدى بهم، يدعون إلى دين الله بإذنه، وإلى الخيرات بأمره. وفيه دلالة على أن من صلح للقدوة في دين الله موفق مهدي للدين الحق وطريق الاستقامة، وليس له أن يخل بمقتضى الهداية ويتثاقل عنها.
٤- وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي وأنزلنا عليهم أن يفعلوا الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل الطاعات وترك المحرّمات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة، وذلك من أعظم النعم على الأب إبراهيم عليه السلام.
٥، ٦- وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي وأوحينا إليهم أن يقيموا الصلاة

ويؤتوا الزكاة المفروضتين، وهذا من عطف الخاص على العام لأن الصلاة والزكاة من الخيرات، وخصهما بالذكر من سائر العبادات لسمو مرتبتهما وخطورتهما لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية، وشرعت لدفع حاجة الفقراء، وفي كلتا العبادتين تعظيم أمر الله تعالى.
وبعد تعداد هذه النعم ووصفهم بالصلاح أولا، ثم بالإمامة، ثم بالنبوة والوحي، أبان اشتغالهم بالعبودية والعبادة لله تعالى، فقال: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أي وكانوا لجناب الله خاشعين خاضعين، طائعين فاعلين ما يأمرون به الناس. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا أوفياء لإحسان الله ونعمه عليهم، فلما أكرمهم الله بالإنعام وتفضل عليهم بالإحسان، كانوا أوفياء له بالعبودية وهو الطاعة والعبادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى بيان ما تفضل الله به من النعم الوفيرة على إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النار، وهي ما يلي:
١- النجاة من أرض الكفر والوثنية إلى أرض الإيمان والتوحيد، وذلك بهجرة إبراهيم الخليل مع ابن أخيه لوط من بلاد العراق إلى أرض الشام المباركة ببعثة أكثر الأنبياء فيها، وبكثرة الخيرات الزراعية، فهي معادن الأنبياء، وكثيرة الخصب والنمو، ووافرة الثمار والأنهار العذبة.
٢- هبة الذرية الطيبة له، فقد وهبه الله إسحاق إجابة لدعائه، وزاده يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة، أي زيادة على ما سأل.
٣- جعل الله كلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحا عاملا بطاعة الله،