
بشرية الرسل وإنجاز الوعد لهم وجعل القرآن عظة
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
الإعراب:
فِيهِ ذِكْرُكُمْ ذِكْرُكُمْ: مرفوع بالظرف، ويجوز كونه مبتدأ، وفِيهِ خبره، والجملة في موضع نصب لأنها وصف كتاب.
جَسَداً على حذف مضاف أي ذوي جسد، فتوحيد الجسد على حذف مضاف، أو لإرادة الجنس أو لأنه مصدر في الأصل.
لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسدا.
البلاغة:
أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ إنكار توبيخي.
المفردات اللغوية:
أَهْلَ الذِّكْرِ هم هنا أهل الكتاب العلماء بالتوراة والإنجيل جَسَداً الجسد هو الجسم، إلا أنه لا يطلق على غير الإنسان خالِدِينَ باقين دائمين في الحياة الدنيا صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي نصرناهم على أعدائهم وأنجيناهم، والمراد: صدقناهم في الوعد فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني المؤمنين المصدقين لهم، ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته، ولذلك حمى الله العرب من عذاب الاستئصال وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ في الكفر والمعاصي، المكذبين.

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا قريش كِتاباً يعني القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه سمعتكم وصيتكم، لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤] أو فيه موعظتكم أَفَلا تَعْقِلُونَ تتدبرون ما فيه من المواعظ والعبر، فتؤمنوا به.
المناسبة:
هذه الآيات جواب لقول كفار قريش: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو أن سنة الله تعالى في الرسل قبل محمد صلّى الله عليه وسلم إرسال رجال من البشر أنبياء، فلا يكون الرسول إلا بشرا، خلافا لما ينكرون، فلا يصح اعتراضهم في كون محمد بشرا.
التفسير والبيان:
يرد الله تعالى على من أنكر بعثة الرسل من البشر بقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ... أي إن جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر، ولم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال تعالى في آية أخرى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف ١٢/ ١٠٩] وقوله سبحانه: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٩] وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم الذين قالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن ٦٤/ ٦].
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إن كنتم في شك من كون جميع الرسل بشرا، فاسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ فالله يأمرهم أن يسألوا علماء الكتب السابقة عن حال الرسل المتقدمة، لتزول عنهم الشبهة، وليعلموا أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا.
وإنما أحالهم على أولئك لأن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، ويثقون بقولهم، ويلتقون معهم في معاداته قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً
[آل عمران ٣/ ١٨٦].
وإنما كانوا بشرا ليتمكن الناس من تلقي الوحي عنهم، والأخذ بيسر بما نزل عليهم. وهذا نص صريح في بشرية الرسل وفي كونهم رجالا لا نساء.
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَما كانُوا خالِدِينَ أي وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين كالملائكة، بل كانوا أجسادا يأكلون الطعام، وما كانوا مخلّدين باقين في الدنيا، ونظير الآية: وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان ٢٥/ ٧] وقوله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان ٢٥/ ٢٠].
وهذا نفي لما اعتقدوا أن من صفات الرسل الترفع عن الحاجة إلى الطعام، فهم كانوا بشرا يأكلون الطعام، ويتصفون بكل الصفات الإنسانية، ويطرأ عليهم الحزن والسرور، والمرض، والنوم واليقظة، والحياة والموت، فلا خلود لهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء ٢١/ ٣٤].
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ... أي إننا نصون حياة الرسل وكراماتهم، ونصدقهم في الوعد الذي نعدهم به من النصر على أعدائهم، وإهلاك الظالمين، وننجيهم ومن نشاء من أتباعهم المؤمنين بهم، ونهلك المكذبين لهم، المسرفين على أنفسهم بالكفر والمعاصي، المكذبين بما جاءت به الرسل.
وبعد إثبات بشرية الرسل للرد على المشركين الذين اعتقدوا بأن الرسالة من خواص الملائكة، نبّه تعالى على شرف القرآن وفضله ونفعه للناس، وحرض على معرفة قدره، فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي لقد أعطيناكم هذا القرآن العظيم

المشتمل على دستور الحياة الإنسانية الفاضلة، فيه شرفكم وصيتكم وسمعتكم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤] أو فيه عظتكم وتذكيركم بمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم، والأخذ بأيديكم إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون أمركم، وتقدرون هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، وتتفكرون بما اشتمل عليه هذا القرآن من العظات والعبر، فتأخذوا بما فيه، وتتجنبوا ما حذره وما نهى عنه.
وفي هذا حث شديد على تدبر أحكام القرآن وتعقل ما جاء فيه من أمور الدنيا والدين والحياة.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على ما يأتي:
١- الأنبياء والرسل من جنس البشر، وليسوا من الملائكة، ليسهل الأخذ عنهم، ومناقشتهم وتفهم الموحى به إليهم، فقد ثبت بالتواتر والاستقراء والتتبع أن الرسل كانوا من البشر.
٢- إن سؤال أهل العلم واجب، وعلى العامة تقليد العلماء، وقد أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن الأعمى لا بدّ له من تقليد غيره ممن يثق به في الاتجاه إلى القبلة إذا أشكلت عليه، وكذلك كل من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به، لا بد له من تقليد أحد العلماء. ولا يجوز للعامة الفتيا في الدين، للجهل بالمعاني التي يرتكز عليها التحليل والتحريم.
٣- لم يجعل الله تعالى الرسل بصفات منافية لطباع البشر، لا يحتاجون إلى طعام وشراب، بل هم كغيرهم من البشر يأكلون الطعام، ويشربون الماء، ويمشون في الأسواق، ويتعاطون شؤون الحياة والمكاسب المتعددة.