آيات من القرآن الكريم

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﰿ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

ودينه يرجعون إذا قامت الحجة عليهم، أو يرجعون إلى توحيد الله عند تحققهم عجز آلهتهم.
- ٢- النقاش الحاد بين إبراهيم وقومه بعد كارثة تكسير الأصنام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٩ الى ٦٥]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
الإعراب:
مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ مَنْ: مبتدأ، ولَمِنَ الظَّالِمِينَ: خبره.
يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ الفعلان هنا صفتان لفتى، أو أن يَذْكُرُهُمْ: ثاني مفعولي سمع. ويُقالُ: فعل مبني للمجهول، وإِبْراهِيمُ: قيل: هو خبر مبتدأ محذوف (أي هو إبراهيم) أو منادى مفرد (أي يا إبراهيم) قال الزمخشري: والصحيح أنه فاعل (أي نائب فاعل) يقال لأن المراد الاسم، لا المسمى.
عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محل الحال بمعنى معاينا مشاهدا، أي بمرأى منهم ومنظر، أو هو على حذف مضاف، تقديره: على رؤية أعين الناس، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
والاستعلاء في عَلى في الرأي الأول وارد على طريق المثل، أي يثبت إتيانه في الأعين، ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه.

صفحة رقم 77

كَبِيرُهُمْ هذا مبتدأ وخبر.
البلاغة:
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ استعارة، شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة.
المفردات اللغوية:
قالُوا أي بعد رجوعهم من مجتمعهم في يوم العيد، ورؤيتهم ما فعل. قالُوا الثانية:
أي بعضهم لبعض. يَذْكُرُهُمْ أي يعيبهم ويسبهم. عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي معاينا ظاهرا بمرأى منهم، بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بفعله أو قوله، أو يحضرون عقوبتنا له.
قالُوا بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا حين أحضروه. قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أسند الفعل إليه تجوّزا وتعريضا لهم بأن الصنم المعلوم عجزه عن الفعل لا يكون إلها، وإنما هو متسبب لما حصل، والقصد تبكيتهم وإلزامهم الحجة وحملهم على ترك الوثنية، أو للاستهزاء بهم، ولهذا قال: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي اسألوا هذه الأصنام عن الفاعل الذي كسرها إن كانوا يقدرون على النطق.
وما روي في الصحيحين وعند أحمد عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات»
تسمية للمعاريض كذبا، لما شابهت صورتها صورته. وجملة فَسْئَلُوهُمْ... فيه تقديم جواب الشرط.
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي راجعوا عقولهم، وفكروا وتدبروا فَقالُوا لأنفسهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتكم من لا ينطق. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا، وعادوا إلى جهلهم، وردوا إلى كفرهم، وقالوا لإبراهيم: والله لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقوله: ثُمَّ نُكِسُوا.. شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثاني من قصة إبراهيم، الذي يصور مرحلة الغليان والغيظ والحقد عند عبدة الأصنام بعد تكسيرها وتحطيمها، وهي كارثة بالنسبة إليهم تتطلب معرفة الفاعل للثأر منه، وحكاية ذلك:

صفحة رقم 78

قالُوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟ أي قال عبدة الأوثان قوم إبراهيم، النمروذ وأتباعه، على سبيل الوعيد والتوبيخ، حين رجعوا وشاهدوا تحطيم آلهتهم: من الذي كسر هذه الآلهة؟ وتعبيرهم بالآلهة تشنيع وتهويل، ومبالغة في التعنيف.
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن هذا الفاعل في صنيعه هذا لمن الذين ظلموا أنفسهم وعرّض نفسه للإهانة والعقاب، إما لجرأته على الآلهة، وإما لإفراطه في كسرها وتماديه في الاستهانة بها.
قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ قال بعضهم الذي سمع قوله المتقدم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ: سمعنا شابا يعيبهم ويتوعدهم يسمى إبراهيم، فهو الذي فعل بهم هذا. قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى...
وظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فقد كان يناقشهم ويقول: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فغلب على أذهانهم أنه الفاعل.
قالُوا: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي قال نمروذ وأشراف قومه: إذن فأتوا به على مرأى ومسمع من الناس في الملأ الأكبر، بحضرة الناس كلهم، حتى يروه ويشهدوا عليه، فلا يأخذوه بغير بينة، أو حتى يبصروا ما يصنع به فيكون عبرة. وكان هذا هو مقصود إبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم، وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تمنع عن نفسها ضرا ولا تنصر أحدا.
قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ أي فلما أتوا به- وهذا كلام محذوف مفهوم- قالوا له: أأنت الذي كسرت هذه الأصنام؟ فأجابهم:

صفحة رقم 79

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أي بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر، الذي لم يكسره.
وقد نسب الفعل إلى هذا الصنم الأكبر، لما رأى شدة تعظيمهم له، باعتباره المتسبب أو الباعث على الفعل، أي الاستهانة والتحطيم، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى المتسبب فيه. أو أنه أقرّ بفعله بأسلوب تعريضي لإلزامهم الحجة وتبكيتهم، كما يقول الصانع الحاذق الشهير أو الخطاط المشهور لمن يسأله عن هذه الصنعة الرائعة أو الخط الجميل: بل أنت صنعت ذلك أو بل أنت كتبت ذلك، والقصد بهذا الجواب تقرير السائل على سؤاله مع الاستهزاء به، لا نفيه عن صاحبه وإثباته للسائل.
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي فاسألوا هذه الأصنام عمن كسرها إن كانوا آلهة ينطقون.
وفي ذلك الجواب لفت أنظارهم وتنبيه أذهانهم إلى عقم عبادة الأصنام، فيبادروا من تلقاء أنفسهم للاعتراف بعدم جدواها وأنها أحجار صماء لا تنطق، وجمادات لا تتكلم، فكيف تستحق العبادة؟! وقد أثر الجواب في أفكار هم بدليل قوله الآتي: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي فرجع قوم إبراهيم حينئذ على أنفسهم بالملامة، ونسبوا إلى أنفسهم التقصير في عدم الاحتراز وعدم حراسة آلهتهم، ما داموا لا ينطقون، وقالوا:
فَقالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي قال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها. أو أنتم الظالمون أنفسكم بعبادة ما لا ينطق.
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي ثم أطرقوا في الأرض للتأمل والتفكير، أو عادوا إلى المجادلة بالباطل لإبراهيم وانقلبوا عن حال الاستقامة، واحتجوا على إبراهيم حينما أدركتهم الحيرة بقولهم: إنك تعلم ونحن

صفحة رقم 80

نعلم أن هؤلاء لا ينطقون، فكيف تطلب منا سؤالهم إن كانوا ينطقون؟! أي أنهم احتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم بسبب الحيرة التي أدركتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
لقد طاشت سهام قوم إبراهيم حينما رأوا أصنامهم مكسّرة، بعد أن رجعوا من عيدهم، فقالوا على جهة البحث والإنكار: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وهذا أمر متوقع، قدّره إبراهيم عليه السلام.
كما أنه قدر أنهم سيعرفون أنه هو المتهم بالتكسير، لحملته السابقة بالقول والنكير، وتسفيه الأحلام والعقول، وانتقاده اللاذع لعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ودعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي يمنح ويمنع، ويضر وينفع.
ولما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، أرادوا إثبات التهمة عليه بالبينة، فقالوا: ائتوا به على مرأى ومسمع من الناس، ليشهدوا عليه بما يقول، ليكون ذلك حجة عليه.
وفي هذا دليل على أنه ما كان يؤخذ أحد بدعوى أحد، وهكذا الأمر في شرعنا، وكل الشرائع.
ولكنهم ما أدركوا أن تلك المواجهة مع إبراهيم عليه السلام أمام الناس في غير صالحهم، فقد كان إبراهيم قوي الحجة، وأراد تنبيه الأفكار إلى عبث عبادتهم، وقلة عقلهم، وكثرة جهلهم، فسألوه عمن فعل تلك الفعلة، فأجابهم بأن الفاعل هو كبيرهم، تعريضا بأن عبادتهم له وتعظيمهم إياه سبب للغيظ والغضب، مما حمله على تكسيرها، وتنبيها لهم بأن من لا يتكلم ولا يعلم لا يستحق أن يعبد، وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما

صفحة رقم 81
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية